لن نستطيع فهم ماهيّة التوجّه الشيعي الشعبي المثير للجدل الذي انبرى يسير بقوة وتعصّب خلف ممارسات وسياسات حزب الله في دعم النظام في سورية، دون ان نحدّد ماهية الفهم الديني لهذا التوجه، والذي جعله يسير في هكذا طريق حساس مليء بالانتهاكات ضد حقوق البشر دون ان يحس بتأنيبٍ للضمير الانساني ودون ان يحذره الوازع الديني عن ذلك.
فمما لا شك فيه ان تلك الماهية تعكس التعصّب المنطلق من عباءة الطائفية المقيتة التي لا تستوعب الاّ هويّتها ولا تنظر الاّ لمصالح تلك الهوية، من خلال تبني موقف الانحياز التام الأعمى بهدف مواجهة أو اثارة الطرف الآخر السني المتطرف.
كما تظهر قوة منهج الخضوع الكامن في العقل الجمعي المذهبي، بمعزل عن نوعية هذا العقل في قربه أو بعده عن المبدأ الذي أتعبنا التيار الديني الشيعي في تبنّيه وطرحه في الحسينيات ورفعه كشعار في المناسبات الانفعالية انطلاقا من مظلومية الامام الشيعي الثالث الحسين بن علي بن أبي طالب، ونقصد بذلك مبدأ الدفاع عن انسانية الانسان أيا كان نسبه أو دينه أو جنسه أو لونه: «ان لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم».
لقد عكس ذلك فهما دينيا غير سوي من حيث علاقته بالحس الانساني، بدلا من ان يعكس التفكّر المستقل وتبني التعقّل والتدبّر والولوج نحو التمييز بين الظلم وأضداده. فرغم وجود نظام شبيه للنظام السوري، كان قابعا في ظلمه على صدر شيعة العراق، هو نظام صدام البعثي، الذي لا يختلف مسمّاه ولا سلوكه عن نظام الأسد البعثي الا في الرقعة الجغرافية. لكن، مادام المظلوم في المشهد العراقي هو الشيعة أولا، ولا مظلوم شيعيا في مشهد الحراك السوري، فمن السهولة بمكان تغيير جلد الأفعى. فكانت الازدواجية، التي أصبحت عنوان المواقف تجاه مظلومية الانسان، هي التي تغلّف المشهد الشيعي الشعبي.
ولنا ان نتساءل هنا: هل التأييد الشيعي الشعبي لحزب الله، ومن ثمّ الوقوف الى جانب نظام دمشق في حربه ضد الشعب السوري، هو تأييد طبيعي وواقعي، أم جاء بسبب ان «العدو» الرئيسي في هذا النزاع هو الجناح «التكفيري» «الناصبي» السنّي، المرتبط - كما تداولت بعض الأطراف - بدولة اسرائيل «الدينية العنصرية»؟ أم لأن «العدو» التكفيري كان شرسا ومجرما وغير انساني في تدخّله بأزمة الشعب السوري وفي تعدّيه على المقدّس الشيعي؟ أم ان هناك سبباً آخر يتعلق بماهية الأسئلة السابقة في علاقتها بطريقة فهم الدين وممارسة التديّن لدى المسلمين بشكل عام والشيعة بشكل خاص في نظرتهم الى الآخر الديني والمذهبي؟.
انها أسئلة شكلت هاجسا للكثيرين، لم يستطيعوا الوصول الى اجابات واقعية وحقيقية عليها الا بعدما تم تحديد العلّة في وجود هذه الأزمة الثقافية، والمتمثّلة في تبني التمييز الديني الطائفي، في مقابل التخبط تجاه اتخاذ مواقف تساند نضال الشعوب العربية المسلمة التي لا تنتمي الى نفس المذهب ممن تمردت على ظلم حكامها وسعت الى استرداد بعض من كرامتها.
لقد تردّد سؤال مختلف باستمرار في ذهني: لماذا هذا الاهتمام الجارف من قبل شعوب المجتمعات العربية والمسلمة بمصير الشعبين الفلسطيني واللبناني في مواجهة اسرائيل، دون اهتمام مماثل بمصير شعوب عربية ومسلمة أخرى تواجه ظروفا عسكرية وارهابية وقمعية وحياتية صعبة جدا بسبب ظلم حكامها؟ لماذا وقفت شعوب الى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم، ورفضت ان تقف الى جانب الشعب السوري المظلوم؟ كيف يمكن للوعي الديني ان يساهم في رسم مواقف طائفية غير انسانية؟.
لقد استطاع «الفهم الديني» و«طريقة التديّن»، التقليديان، المسيّسان، ان يحافظا على محورية المقدّس الطائفي في تفكير العقل الجمعي الديني، ونعني بالمقدس الديني: الهوية الطائفية وأدواتها ومستلزماتها وطقوسها وغاياتها. لذا، لم ولن يستطيعا ان يجعلا الانسان - بمعزل عن مختلف انتماءاته - المحور المركزي في التفكير الديني.
يرجع سبب ذلك الى انفصالهما، أي الفهم الديني وطريقة التديّن، عن واقعنا الحداثي المعاش المرتكز الى محورية حقوق الانسان، وابتعادهما عقودا طويلة، في المضمون والمحتوى، عن حياتنا الراهنة، وانتمائهما الى الحياة القديمة غير المستندة الى تلك المحورية، ما جعل تفكير المنتمين اليهما غير مبال بالظلم ضد الانسان المنتمي لهوية طائفية مغايرة، فما بالك بالظلم ضد الانسان المنافس لهويته تلك، أو ضد الانسان غير المنتمي لدينه. وهذا بطبيعة الحال خلق حالة من التخبّط والتمييز في المواقف تجاه الدفاع عن مظلومية الانسان، وجعل الغاية الطائفية مبرّرا للسكوت عن مختلف صور التعدّي الوحشي على الحقوق والكرامات. وقد أضفى ذلك هالة دينية جمعية وجماهيرية على أي صراع يكون الطرف الآخر فيه هو الآخر المختلف بالهوية الطائفية، كما أضفى نرجسية على الذات الطائفية ما سهّل عليها اخلاء مسؤوليتها من التخلف والتقهقر والقتل والظلم.
فالشعب السوري لا يواجه «العدو» الاسرائيلي بل يواجه نفسه ويسعى لاعادة رسم خريطة مصيره والدفاع عن كرامته، في مقابل نظام يرفع لواء مواجهة اسرائيل مستندا في ذلك الى دعم قائم على تحالف شيعي، سياسي من جهة وشعبوي طائفي من جهة أخرى. وهذا ساهم في جعل المصالح الطائفية تسيّر المواقف. فأصبح الدفاع عن مواقف حزب الله في النزاع السوري، ومساندة نظام دمشق الراعي لمواقف الحزب في لبنان وفي مواجهة «العدو» الاسرائيلي، يحظى بقبول ديني طائفي لا سبيل لمقايضته بمصير الشعب السوري المظلوم.
فالسيناريو الطائفي أعمق في التعبير عن أزمة المسلمين الفكرية في ظل المعضلة الأم، أي التمييز بين الديني والانساني. فقد غزا صدام حسين الكويت وابتلعها، وتعمّد اشراك العامل الفلسطيني الاسرائيلي في القضية، مدعيا ان طريق تحرير القدس يمر عبر الكويت، مستهدفا بصواريخه «المجاهدة» تل أبيب، لقناعته بأن الفهم الديني الشعبي يستند الى مبدأ عقيدي مفرط في العداء لليهود ولدولة اسرائيل، ما جعله يستغله أيّما استغلال.
وقد نجح طاغية العراق كثيرا في سياسته تلك، واستطاع ان يجيّر الشعوب العربية والمسلمة لصالحه، لكنه في المقابل، ومن دون قصد، عرّى المواقف الاسلامية. فقد انفضح هذا النوع من الفهم الديني وهذا الشكل من التديّن، اذا كان «العدو» هو دولة اسرائيل، وتجاهل مبدأ «انصر أخاك مظلوما» اذا كانت المحنة محلية وعربية واسلامية تخص هوية طائفية مغايرة.
فصدام حسين استغل الفهم المسيّر من قبل رجال الاسلام السياسي وفق رؤية قائمة على ضرورة وجود عدو ديني (يهودي)، في حين عاش حزب الله هذه الأزمة في ظل وعي أضيق بوجود عدو طائفي، حيث تم خلاله استغلال عامل التمييز الطائفي لدعم حليفه السوري، مُطْمَئّنا بأن التفكير الشيعي الشعبي سوف يساند توجهه، وهذا ما حصل عليه. وهذا ما يحصل أيضا عند طرف المعادلة الآخر، أي عند الطرف السني الطائفي.

فاخر السلطان
fakher_alsultan@hotmail.com