استرسلت وسائل الإعلام المختلفة في تغطية التطورات الجارية في دولة جنوب السودان وأسهبت في الحديث عن الخلاف السياسي بين الرئيس الحالي سلفا كير ونائبه السابق ريك مشار، والانقلاب العسكري الذي يتحول شيئاً فشيئاً إلى اقتتال عرقي أو حرب أهلية بين قبيلتي الدينكا والنوير، وهما القبيلتان الأكبر في الدولة  الوليدة.

لا يمكن المجادلة في شرح أو توصيف ما جرى ويجري،وبالتأكيد نحن أمام انقلاب أو اقتتال قبلي يأخذ شكل الحرب الأهلية التي قد تكون طويلة ومضنية؛ لكن هذا كله ليس سوى عرض للمرض الذي يشكل برأيي السبب الأساس وراء ما يجريوالمتمثل بفشل الانفصال وحل الدولتين في السودان، وعدم امتلاك الجنوب للإمكانيات اللازمة والضرورية من أجل قيام دولة ناجحة مستقرة وآمنة.

لشرح وتوضيح ذلك لا بد من استحضار أمرين مهمين جعلا من الانفصال، ومن ثم الاقتتال مسألة وقت فقط وهما اتفاقية  نيفاشا للسلام التي تم توقيعها بين قيادتي الشمال والجنوب  فينيروبي - مطلع العام 2005 ومقتل القائد الجنوبي التاريخيجون غرنق في حادث تحطم طائرته الغامض في أوغندا فيشهر آب أغسطس من العام نفسه.

قسمت الاتفاقية السلطة بشكل فعلي بين الشمال والجنوب، حيثأعطت السلطة في الشمال بنسبة سبعين في المائة للمؤتمر الوطني مع مشاركة شرفية للحركة الشعبية الجنوبية وبقية الأحزاب الشمالية، بينما أعطت السلطة في الجنوب بنفس النسبة للحركة الشعبية مع مشاركة شرفية للمؤتمر الوطني وبقية الأحزاب الجنوبية، وكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس مع  تفرد المؤتمر بحكم الشمال وتفرد الحركة بحكم الجنوب، وتشكل  أمر واقع جعل من الانفصال أو الإعلان الرسمي عنه مسألة وقت فقط.

الاتفاقية نصت أيضاً على حق تقرير المصير للجنوبيين بعد مرحلة انتقالية مدتها ست. تم في نهايتها استفتاءهم على خياريالوحدة أو الانفصال فاختاروا بأغلبية ساحقة الانفصال، ليس فقط نتيجة لتبني قيادتهم لهذا الخيار، وإنما لعدم تحويل الوحدةإلى خيار جاذب، ليس فقط في السياق السياسي الأمني، وإنما الاقتصادي الاجتماعي أيضاً.

انحازت القيادة الجنوبية للانفصال من أجل الحفاظ على المكتسبات الحزبية الضيقة، والمصالح الشخصية لهم كما ليأسهم من إمكانية المشاركة الفعلية في حكم السودان كبلد موحد، وأهم من ذلك عدم قيام القيادتين الشمالية والجنوبية بتحويل الوحدة إلى خيار جذاب ومفضل عبر خطط  وطنية تنموية شاملة خاصة فيالجنوب. وذهبت مئات ملايين الدولات من ملايين النفط إلى جيوب القادة الجدد في الجنوب أو إلى مشاريع فاشلة عجزت عن تحسين أو بالأحرى إنشاء بنى تحتية عصرية وملائمة للدولة الوليدة في الجوانب التعليمية الصحية والمواصلاتية. كما عنإخراج الجنوبيين من أحوالهم المزرية والمأساوية.

تحويل الوحدة إلى خيار جاذب لم يقتصر في الحقيقة على الجنوب أو البعد الاقتصادي، الاجتماعى، وإنما تعدّاه إلى الإطار الوطني العام بأبعاده المختلفة، السياسية الاقتصادية والاجتماعية، ما استلزم بالضرورة حلّ المشاكل الأمنية والحروب التي يعانى منها السودان ككل، والأهم من ذلك وضع الأسس والبنى للدولة الديموقراطية المدنية لكل مواطنيها، ومن ثم الانكباب على وضع خطط تنموية وطنية للأقاليم والمناطق المختلفة بما فى ذلك الجنوب  طبعاً.

في السياق نفسه، لا بد من الإشارة إلى رفض قيادات معتبرة ومهمة في حزب المؤتمر الوطني للاتفاق - غازي صلاح الدين،وقطبي المهدي على سبيل المثال وليس الحصر- وانتقادهم المحق لهم باعتباره يؤسس للانفصال فقط، ومحاججتهم بأنه ما كان ينبغى أبداً أن يتم عرض فكرة الانفصال على الاستفتاء، وإنما خيارات أخرى منها من قبيل الفيدرالية أو حتى الكونفدرالية، وعلى قاعدة الوحدة باعتبارها مصلحة حيوية وفعلية للشمال والجنوب والسودان ككل.

أما فيما يتعلق بتأثير غياب جون قرنق على تغليب خيار الانفصال فلا بد من الإشارة إلى أنه أمن دائماً   بخيار الوحدة، وهو فكر أو ربما حلم  حتى برئاسة السودان الموحد ذات يوم، وفي احتفال التوقيع على الاتفاقية تحدث عن الوحدة أكثر بكثير مما تحدث عن الانفصال واستفاض في شرح فكرته عن السودان الجديد الديموقراطي والتعددي، وعن الاتفاقية التي ستكرّس السلام،ليس في الجنوب فقط، وإنما في ربوع البلد ككل. وأعتقد أنه فهم بحسه القيادي والتاريخي أن الوحدة أقل كلفة على الجنوب من الانفصال حتى بمنظار المصلحة الجمهورية الضيقة غير أن غيابه المفاجىء والغامض أتاح المجال للانفصاليين المفتقدين للحس التاريخي والقيادي لفرض وجهة نظرهم وخلق فراغ قيادي جعل من الاقتتال الداخلي والنزاع على السلطة  مسألة وقت فقط، كما هو الحال مع معظم القيادات التاريخية في العالم الثالث حيثالافتقاد إلى بنى ومؤسسات ديموقراطية متينة على المستوين الحزبي والوطني العام.

إلى الجوانب السياسية الاقتصادية والاجتماعية، فإن دولة جنوب السودان لا تتمتع بجغرافيا تمكنها من  العيش بشكل مستقل وطبيعى، فهي لا تملك منفذ إلى البحر إلا عبر الشمال. أما حدودها مع بقية الدول الأفريقية تحديداً في الغرب والجنوب فوعرة جداً، وتتمثل أساساً بأدغال لا يمكن عبرها إقامة صلات من أي نوع اقتصادي أو خلافه وعملياً، فإن صلاتها مع العالم تمر حكماً عبر الشمال الذي صوتت من أجل الانفصال عنه والقطيعة معه بما يتعارض مع المصالح  الحيوية وحتى الوجودية للدولة الوليدة.

بناء على المعطيات السابقة، وكما كانت المسافة من نيفاشا إلى الانفصال قصيرة جداً، وحتى حتمية فإنها كانت كذلك أيضاً من لحظة الانفصال إلى الحرب الأهلية الدائرة حالياً وببساطة نحنأمام دولة فاشلة يحكمها قادة فاسدون ضيّقوا الأفق وتفتقد للمؤسسات والقدرات والإمكانيات اللازمة كي تعيش بسلام وأمن مع نفسها، كما مع محيطها.

الآن ومع الحديث عن لقاءات مصالحة في أديس أبابا، ورعايةإفريقية وأممية للحوار المنتظر، الذي سيطول بالتأكيد، كما الحرب الأهلية نفسها وستكون للأسف جولات قتال أشد عنفاً ودموية،كما حوارات متنقلة في مدن إفريقية وغير إفريقية، ووربما يكون  ايضا هروب جنونى وعبثى الى الامام ،عبر استنتساخ حل الدولتين  ولكن داخل الجنوب هذه المرة ،و غير ان الحل الناجع والجذرى ، لن يكون إلا من خلال التفاهم، أو بالأحرى العودة مرةأخرى إلى الشمال ليس عبر اندماج مباشر، وإنما عبر اتفاقات سياسية اقتصادية وأمنية تخلق شكل من أشكال الاتحاد بين الكيانين، وتساعد في السياق على  تكريس السلم الأهليوالنظام الفدرالي بين أقاليم السودان المختلفة.

كلمة أخيرة تتعلق باستخلاص العبر مما يجري في جنوب السودان تحديداً في السياق الفلسطيني الإسرائيلي حل الدولتين، ليس هو الحل المثالي والمستدام، لأن إسرائيل قضت عليه وجعلته غير ذي صلة، كما لكونه عاجز وقاصر عن فرض السلام العادل والشامل وإشاعة الأمن والاستقرار في فلسطين والمنطقة والخوض فيه مضيعة للوقت والجهد وابتعاد عن الحل الأكثر نجاعة وواقعية المتمثل بالدولة المدنية الديموقراطية الواحدة والعادلة لكل مواطنيها.

باحث فلسطيني