إن كتاب "التوافقية وإدارة التعددية اللبنانية"، الصادر عن دار سائر المشرق ومركز عصام فارس، يعالج إشكالية التعددية الطائفية-المذهبية في لبنان وكيفية إدارتها. إذ إن لبنان، منذ تكوينه في زمن إمارة جبل لبنان، ثم مع ولادة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920، بني على أساس تشارك السلطة وفق قاعدة التمثيل الطائفي-المذهبي.
غير أن التنافس على النفوذ بين ممثلي الطوائف أدى إلى مشاكل عديدة خطرة من أحداث 1840 إلى أحداث السابع من أيار 2008 مرورًا بالحرب اللبنانية وأحداث 1958 وغيرها. وبما أن لبنان بلدٌ متعددُ الطوائف والمذاهب (18 طائفة ومذهبًا دينيًا) اعتمد الديمقراطية التوافقية سبيلًا لإدارة الشأن العام فيه. لكن هذه الديمقراطية لم تتعارض مع مفهوم الديمقراطية بمعناها الكلاسيكي، إذ من جهة لم يُفرض أمر يستهدف مجموعة ما لبنانية، وفي المقابل، لم تتعطل المرافق العامة ويتوقف مسار ما بعرقلة من أية طائفة.
ارتكزت قيمة لبنان على تمسّكه بالديمقراطية وبمبادئها ومقتضياتها لاسيما الحرية الفردية والمساواة وحرية المعتقد وتغييره واحترام التنوّع. إذ إن هذا التنوع يغني لبنان ويجعله مثالًا يحتذى به في كيفية تعامل اللبنانيين مع بعضهم البعض وفي تقبّلهم لبعضهم البعض. ولكن الإشكالية التي تفرض نفسها هي كيفية إدارة شؤون بلد متعدّد الطوائف كلبنان، من دون الجنوح نحو استعمال أساليب وطرق غير ديمقراطية. وذلك لأن أغلب الدول المحيطة بنا والتي تشبه تركيبة بنيتها المجتمعية التركيبة المجتمعية اللبنانية، اعتمدت أساليب دكتاتورية وتوتاليتارية في محاولة منها لصهر المجتمع وجعله مجتمعًا متجانسًا. وكان فيها طغيان ولو مستتر للفئة التي خرج منها الرئيس.
من هنا أهمية لبنان وميزاته، إذ إن لبنان، كبلدٍ ذات مجتمع مركب، لم يكن وحده مَن اعتمد الديمقراطية التوافقية، بل سبقته في اعتمادها دول أوروبية وأميركية كثيرة كسويسرا وهولندا والولايات المتحدة على ما جاء في الكتاب الذي ورد فيه مثلٌ عن النموذج السويسري في إدارة التعددية.
تمثّل النظام التوافقي في لبنان على ما جاء في المداخلة التي أدلت بها مديرة معهد العلوم السياسية في جامعة اليسوعية فاديا كيوان بأربعة مبادئ تمييزه عن غيره من الأنظمة التوافقية وهي على الشكل الآتي:
أولًا: مبدأ تشكيل الحكومات ذات الطابع الائتلافي أو ما يعرف باسم حكومات الوحدة الوطنية
ثانيًا: مبدأ توزيع المقاعد حصصًا على الطوائف وهو ما نصت عليه المادة 24 من الدستور.
ثالثًا: مبدأ احترام الاستقلالية الذاتية للطوائف التي يتكوّن منها نسيج المجتمع اللبناني وذلك في بعض المجالات في ما خص الأحوال الشخصية وحرية انشاء المدارس.
رابعًا: منح مختلف المجموعات الوطنية حق النقد (الفيتو) عندما يشعر أي مكوّن منها بتهديدٍ يمس مصالحه الحيوية.
يقول رئيس المجلس الدستوري الدكتور عصام سليمان أن التوافقية في نظامنا السياسي اقترنت بالديمقراطية. وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم أرند ليبهارت، إذ إن التوافقية في لبنان محصورة بحسب سليمان بالمبادئ والآليات والقواعد التي تحكم نظامنا السياسي وتوزيع المناصب في الدولة اللبنانية في إطار التوازن العام بين مختلف طوائف المجتمع اللبناني.
يطالب السفير سمير حبيقة باعتماد الحياد الإيجابي الذي لا يشكّل انعزالًا عن المحيط ولا استقالةً من الواجبات القومية ولا يقوم على غض الطَرْف عن معاناة الأشقاء، إنما هو حياد أخلاقي ومناقبي يدافع عن المظلوم بوجه الظالم أيًا يكن هذا الظالم. إن السفير حبيقة ينطلق من فكرة أساسية لتبرير الحياد وهذه الفكرة هي بأن المجتمع اللبناني هو مجتمع مركّب.
أما بالنسبة للوزير سليم الصايغ أن التوافقية سيف ذو حدّين. يستعمله البعض من أجل تقويض السلطة وعرقلة سير المرافق العام.
من خلال ما تمّ ذكره أعلاه يمكننا أن نستنج بأن الديمقراطية التوافقية هي خيار لبناني محض، بمعنى أنه لم يتمّ فرضه من الخارج كما جميع الاتفاقات والتسويات التي فرضت على اللبنانيين في مرحلة من المراحل. ولكن يجب الإشارة بأن التوافقية من الممكن أن تكون سيف ذو حدّين تؤدي إلى تعطيل البلد وتقويض السلطة وعرقلة سير المرافق العامة إن لم يتم التفاهم المسبق على كافة المواضيع التي تدرج سواءًا على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء أو مجلس النواب. وهذه الديمقراطية في أغلب الأحيان تستعمل لتوزيع الحصص والتعينات على الأحزاب والفرقاء السياسيين. فهل سيأتي اليوم الذي ينتقل معه لبنان من اعتماد التوافقية التعطيلية إلى التوافقية البناءة التي تحمي الطوائف من استبداد الطوائف الأخرى؟ وهل من الممكن أيضًا أن يتمّ تعميم "النموذج "اللبناني كنموذج بديل للأنظمة التوتاليتارية والاستبدادية التي تتحكم بدول الجوار؟ 

بيتر سلمون- Mon Liban