تتبنى السلطة الأردوغانية الحاكمة في تركيا ردود أفعال انتقامية على محاولة الانقلاب، في سلوك عدواني يبدو أشد كارثية من الانقلاب الفاشل نفسه. وكان يفترض بالرئيس التركي أن يصدر عفوا عن أكبر عدد ممكن من المتورطين في المحاولة الانقلابية، لا سيما صغار العناصر العسكرية والمدنية والمرؤوسين الذين خضعوا لأوامر قادة الانقلاب، فالتسامح ضروري لكسب الحاضنة الاجتماعية للانقلاب، ولتسريع التشافي المجتمعي من آثاره، وإنعاش الوحدة الوطنية، وفتح صفحة جديدة.
إن وقوف المجتمع التركي إلى جانب الشرعية الديمقراطية التي يمثلها الرئيس المنتخب كان يفترض أن يقابل من أردوغان بردّ الجميل للشعب عبر إجراءات عفو ومصالحة وإدماج سياسي وتعزيز المشاركة، يقول الرئيس من خلالها لشعبه إنه حريص على مواطنيه، بما في ذلك المخطئين أو المتورطين منهم في العملية الانقلابية، فالخطوة الإيجابية الشعبية كان يفترض أن يُرد عليها بخطوة إيجابية مقابلة، عبر الانحياز لوحدة النسيج الاجتماعي التركي. ولكن الذي حصل أن أردوغان فكّر وتصرّف بطريقة حزبية ودفاعية، فيها شخصنة وحقد وكيدية، فتمترس بالحزب والسلطة لا بالوطن والناس.
 
 
خطيئة الانتقام
 
إن المشتركين في الانقلاب هم مواطنون أتراك، والتنكيل بهم تنكيل بالمجتمع، وهم ينتمون إلى جماعة فتح الله غولن التي كانت حليفة لأردوغان، وعملت على تمهيد الطريق أمام حزبه للصعود إلى السلطة عبر عملها الاجتماعي والدعوي، الذي أسهم في أسلمة المجتمع التركي من خلال نموذجها المسمّى “الإسلام الاجتماعي”، بمعنى أنها رغم افتراض تورطها في عمل غير مشروع كالانقلاب العسكري، فلا يمكن أن تصنّف كجماعة إرهابية، وحتى لو كانت إرهابية، فيفترض بالدولة أنها مؤسسة عقلانية لا تنتقم ولا تثأر ولا تتصرف بعدوانية كالتي تحصل اليوم. كما أن أعضاء جماعة غولن يظلون من المواطنين الأتراك في كل الأحوال والظروف، مهما كانت التهم الموجهة إليهم، والتنكيل بهم هو الخيار الأسوأ لأي حكومة.
 
الرئيس التركي هو من لجأ إلى الشعب وليس الشعب من التف حوله من تلقاء نفسه، كما صورت وسائل الإعلام ذلك
وبالتالي فإن أردوغان برد فعله العدواني الاستئصالي يبعث برسالة أخلاقية خاطئة للجمهور وللمجتمع التركي يقول فيها إن كل شيء مباح في سبيل المحافظة على السلطة، وأن لا وزن للمواطنة أو حقوق الإنسان. وحين ينتقم ممّن كانوا حلفاءه بالأمس فإنه يطعن في شرعية نفسه، فهو يقول إن السلطة فوق المبادئ، والسياسة قبل القيم، والأيديولوجيا مجرد قناع، وكل شيء مباح في الصراع على الحكم، وأن لا وفاء ولا تسامح حتى مع من جمعنا بهم ميثاق ديني أو أخلاقي في يوم من الأيام، أو كانوا حلفاءنا في عمل مشترك وتعاون وثيق كنا نزعم أنه من أجل الدين والوطن؛ فهم ينقلبون علينا ونحن ننكّل بهم.
 
عندما يدين أردوغان جماعة غولن فإنه يدين نفسه، لأن هذه الجماعة تنتمي معه إلى المربع الأيديولوجي ذاته، ولأنها هي من دعمته في السابق، إلى جانب أن بعض أعضاء الانقلاب هم من الدائرة المحيطة بأردوغان نفسه. كما أن الصراع بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية هو صراع داخل المربع الإسلامي وعلى تمثيل الدين، وليس من أجل الديمقراطية أو تركيا، وبذلك تكون الدماء التركية التي أريقت خلال الانقلاب من الشعب والجيش، إنما سُفكت على مذبح الإسلام السياسي. وأن تركيا تدفع من ديمقراطيتها واستقرارها ثمن تصفية حسابات حزبية وتطاحن أيديولوجي بين غولن وأردوغان، بمعنى أنها أزمة أيديولوجيا يراد تسويقها على أنها أزمة مجتمع.
 
إن قيام جماعة، بنفوذ وانتشار أتباع غولن، بانقلاب عسكري يعني أن ثمة أزمة مجتمعية حقيقية وأن التماسك الاجتماعي مهدد، فعندما تكون جماعة بهذا النفوذ العسكري والبيروقراطي والحضور الاجتماعي غير راضية عن السلطة إلى درجة دعم انقلاب، فإن ثمة أزمة أعمق من طموحات محدودة لانقلابيين، وكان على الرئيس التركي أن يكون أكثر وعيا ورشدا في التعامل مع هذه الأزمة، لكنه أخطأ في تعريفها فزاد خطؤه في كيفية التعاطي معها.
 
 
تشفي أردوغان من الانقلابيين يعكس عقلية مستبدة
الأزمة هي أزمة الرضا السياسي التي انعكست على التماسك الاجتماعي ككل الأزمات التي يختلط فيها الدين بالأمور الحزبية والسياسية، وهي أزمة لها بالتأكيد في الخلفيات والأعماق أبعاد اجتماعية واقتصادية وجهوية كامنة. وكان يفترض بالرئيس إدراك أن الأولوية ليست للانتقام من الانقلابيين، ولكنها لإنعاش الجسم التركي، ومداواة الجروح والمعافاة السياسية، واستعادة التماسك الاجتماعي، ولذلك نقول إن المطلوب كان نفحة تسامح وخطوة عقلانية ملهمة تجاه الشعب التركي عبر إصدار عفو عن معظم الانقلابيين، وهي الخطوة التي كان من شأنها أن تجعل الرئاسة التركية تضطلع بدور أخلاقي يضعها في موقع معنوي ممتاز على المستويين المحلي والدولي.لا سيّما وأن غفران خطيئة العسكريين الانقلابيين كان سيصنف كخطوة اعتبارية إيجابية باتجاه مؤسسة الجيش، ما يعيد بناء الثقة معها ويعيد للضباط والجنود ثقتهم في أنفسهم، وهو خيار لصالح الدولة والمجتمع وأفضل من قرار إعادة هيكلة الجيش التدخلي والملتبس الذي أصدره أردوغان. لكن الرئيس التركي تصرف بعدوانية وثأرية، وأثبت بتصرفاته المناقضة للديمقراطية، مثل تلويحه الدموي بإعادة عقوبة الإعدام، أنه ينتمي إلى ذات الثقافة المناهضة للديمقراطية التي أفرزت الانقلاب، وأنه ليس أفضل من المنقلبين عليه، وأنه معني بالسلطة لا الدولة، وبالحزب لا المجتمع، وبالنرجسية الشخصية لا الخلاص الوطني.
 
 
مقدمات ونتائج
 
صحيح أن الذين قادوا الانقلاب العسكري انطلقوا من ثقافة عتيقة أكل عليها الدهر وشرب، وهي عقلية الانقلابات العسكرية، لكن أردوغان أيضا انطلق من العقلية البدائية المتهافتة ذاتها عبر تحميله المسؤولية لشخص مثل فتح الله غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، فعندما تكون لشخص واحد قوة تأثير على الوضع الداخلي التركي من الخارج وتحريك التمرد في الجيش رغم حواجز الجغرافيا.
 
فإن المشكلة تكمن في أردوغان وليست في غولن، والذي يفترض أن تتم محاسبته هو أردوغان وليس غولن، فتصدّع الجبهة الداخلية التركية هو مسؤولية أردوغان نفسه الذي أصبح أكثر تصلبا وتيبّسا وتكلّسا مع تقادم مكوثه في السلطة، وكان يفترض به أن يكون أكثر براغماتية ومرونة في التعامل مع التعددية التركية واستحقاقات الوفاق السياسي وترصين الاصطفاف الداخلي، فالوحدة الوطنية هي الثروة الحقيقية لتركيا، وهي التي منحتها حصانة ضد الانقلاب.
الانقلاب نتيجة وليس مقدمة، فثمة مقدمات سياسية أردوغان متورط فيها ومناخات توتر واحتقان واستقطاب، أسهم الرئيس التركي بسياساته وبما تقاعس عنه من سياسات ومبادرات، في تشكيلها وتكريسها. فقد ارتكب أردوغان خطيئة كبرى عندما اختار أن يجمع الأتراك حوله على أساس التخندق ضد عدو مصطنع مثل فتح الله غولن أو جماعته التي اعتاد أردوغان على تسميتها بـ”التنظيم الموازي”.
 
لمشكلة تكمن في أردوغان وليست في غولن، والذي يفترض أن تتم محاسبته هو أردوغان وليس غولن، فتصدّع الجبهة الداخلية التركية هو مسؤولية أردوغان نفسه الذي أصبح أكثر تصلبا وتيبّسا وتكلّسا مع تقادم مكوثه في السلطة
وكان على أردوغان أن يسأل نفسه ومستشاريه وعقلية أكاديمية مرموقة قربه مثل أحمد داود أوغلو عن ديناميكيات الاجتماع السياسي التي أسهمت في إيجاد التنظيم الموازي، لا أن يتخذ هذا التنظيم عدوا يوجّه له التهم في كل خطاب، فأسهم بطريقته الهجومية والعدوانية في تهيئة مناخ مشحون بالاستقطاب والتوجس والخوف قاد في ما قاد إليه إلى نتيجة كالانقلاب وتضعضع التجربة التركية.
 
بين الخوف والأمل
 
أسوأ ما فعله أردوغان هو الاستثمار في “الخوف” بعد أن كان حزب العدالة والتنمية قد بنى شرعيته السياسية في فترة صعوده على “الأمل” الاقتصادي والتنموي، ما جعله يحصد تأييد الناخبين الأتراك وثقتهم حتى أولئك الذين يختلفون معه أيديولوجيا. وكان على أردوغان أن ينطلق في ردود أفعاله من وعي أن الشعب التركي بتنوعه هو صاحب الفضل عليه في إفشال الانقلاب، فالرئيس هو من تمترس خلف الشعب ولاذ إليه في ساعة المحنة، وليس الشعب من التف حول أردوغان كما تحاول وسائل إعلام عربية موالية للرئيس التركي أن تصوّر ذلك.
 
كما يتحمل أردوغان مسؤولية التداعيات الدموية التي ترتبت على دعوته للجماهير للنزول إلى الشارع ومواجهة الجيش، ولولا قدر من عقلانية أبداها طرفا المواجهة لسالت بحور من الدم في الشوارع، والمسؤولية الأخلاقية في هذا تقع على عاتق أردوغان نفسه. السياسات الإقصائية التصفوية الراهنة سيكون أثرها أشد خطرا وكارثية من حصول انقلاب أو نجاحه. وعلى الرئيس التركي أن يتعظ من سياسات حلّ المؤسسات واجتثاث البعث وتسريح الموظفين غير المرغوب فيهم سياسيا في العراق.
 
العرب :همام طه