لافتة كانت قراءة عناوين الصحف الإماراتية في صفحاتها الأولى أثناء انعقاد «القمة العالمية للحكومات» في دبي «لاستشراف حكومات المستقبل» ومقارنتها مع عناوين صحف عربية مثل عنوان «الحياة» حول قلق من «اختناق» 300 ألف إنسان في حلب ونزوح مليون إلى تركيا مع صورة لطفل سوري يحاول أن يتنفس فقط.

 

 

ففي المدينة التي تُولده وتجدد نفسها منذ عقود قليلة انطلقت الترتيبات العملية للمستقبل الذي وصل باكراً حاملاً اندهاش يخطف الأنفاس. وفي المدينة العريقة التي كانت مهداً للحضارة العربية لقرون عدة، حبس الناس أنفاسهم هلعاً من عواقب قيام الحكومة السورية وحلفائها بقطع الطريق الوحيد المتبقي للخروج من شرق مدينة حلب وضرب الحصار الخانق على 300 ألف. منظمات غربية غير حكومية أفادت أن أكثر من مليون سوري يعيشون تحت الحصار بعد خمس سنوات من الحرب في كارثة إنسانية بقرار حكومي. وحكومات دولية تعلك الديبلوماسية الماكرة منذ خمس سنوات تارة عبر «بيان جنيف» وتارة عبر «عملية فيينا» بينما الثنائي الوزاري المخضرم، سيرغي لافروف الروسي وجون كيري الأميركي، يعقدا الحاجبين حيناً لنقرأ أنهما مختلفان نوعاً ما، ويطلقا ابتسامة الديبلوماسية العريضة – الإيرانية الأصل – لنفهم أنهما وجدا صيغة حثيثة للتغلب موقتاً على الصعوبات في تلك العملية السياسية المرهونة عمداً بالحرب السورية البعيدة عن مدنهما.

 

 

مدينة الأسبوع، في مسيرة اجتماعاتهما التخديرية هي ميونيخ حيث ينعقد المؤتمر الأمني وحيث الحديث سينصب على إجراءات «بناء الثقة» لوقف النار المشروط والمقطّع الأوصال ولرفع الحصار عن مدينة ما من المدن المحاصرة العديدة، فيما يستمر ارتهان حاضر سورية ومستقبلها في ظلم وظلام. مدينة الأسبوع في العالم الآخر من المنطقة العربية هي دبي التي أعلن منها رئيس وزراء الدولة وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عبر «تويتر» – في «حوار المستقبل» مع 10 مليون متابع تغييرات حكومية استحدثت وزارتين لا سابقة لهما، للسعادة وللتسامح، وثالثة للشباب تولتها شابة في سن 22، وأوكل إلى خمس نساء بارعات وزارة المجلس الوطني الاتحادي، وتنمية المجتمع والتسامح والسعادة، إلى جانب وزارة الدولة للتعاون الدولي التي ترأسها أيضاً امرأة قديرة.

 

 

عقد قمة «استشراف حكومات المستقبل» وتعمّد إطلاق تشكيل وزاري ابتكاري منها، حدثٌ بارز في خضم محيط إقليمي مضطرب تلاحقه لعنة الإرهاب. الناقدون اعتبروا ذلك «فقّاعة» وإصراراً على الإنكار ودفن الرؤوس في الرمال بعيداً عن واقع الحروب والهجرة والتهجير عبر تركيز الحديث على المستقبل بوعوده وتحدياته التكنولوجية. الواقعيون قالوا إن الانصباب على خطاب التدمير والإرهاب بلا خطة مواجهة غير تلك العسكرية إنما يخدم أهداف من يريد للمنطقة العربية أن تبقى في ظل الدمار والانحطاط.

 

 

في استطلاع أجرته «الرؤية» على هامش القمة أكد المشاركون أن «تبني أفكار مبتكرة في محاربة الفكر الضال كفيل بوأد التطرف»، وأن «تحصين النشء ثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً، بأساليب مبتكرة وغير تقليدية، كفيل بلجم الفكر المتطرف»، وأن على الحكومات بذل قصارى جهدها في «تأمين فرص العمل والحياة الكريمة للأسر بعيداً عن البطالة والفقر، لأنهما يشكلان ثغرة ينفذ منها الظلاميون عند محاولاتهم استقطاب الشباب لأفكارهم».

 

 

حسرة على الأجيال التي تربض في ظل السلطوية الحكومية، وظلام الفكر التدميري الإرهابي. حسرة على الأجيال التي ليس لها حق الحلم وهي تلهث وراء مأوى تغامر بأرواحها وأرواح أبنائها في مواسم الهجرة هلعاً من واقع دموي فتّاك. حسرة على أجيال لم تذق طعم السعادة.

 

 

إنما، هنيئاً لِمَن أُعطي دفعة لفرصة لبناء الأحلام مع مأسسة الحق بالسعادة والتنمية الاجتماعية ومحورية الإنسان والتسامح، هنيئاً للشباب الذين تقول لهم حكومتهم أن من حقهم المشاركة في صنع القرار، بمأسسة، وأن وراءهم قراراً حكومياً للتمكين ورصد الكفاءات وتشجيع الابتكار. هنيئاً لصحف لها مجال نشر عناوين على نسق «البصيرة» و «مواطنون للقيادة: أنتم السعادة». كأن هذا الخطاب من كائن آخر وليس في المنطقة العربية حيث خطاب المواطن يلعن القادة الذين يتسلطون عليه باسم الدين تارة وباسم الأمن القومي تارة أخرى.

 

 

عناوين الصحف اللبنانية تجول بين فراغ رئاسي ونفايات وفساد وألاعيب السياسيين المدعوين «زعماء». في ذلك البلد الذي له سمعة الريادة في مختلف المجالات والفكر الحر والإبداع، ما يعطّل مسيرته هو حكوماته وزعماؤه وخطابهم السياسي وأحزابه وتكتلاته وسخافة سياسييه. الناس تسأل: هل سيكون عندنا رئيس؟ هل ستأتي الحرب السورية إلينا بقرار دولي؟ يسأل الشاب اللبناني: هل أتزوّج أم أن الوضع الاقتصادي سيبقى في تدهور ولن أتمكن من تكوين عائلة؟

 

 

عناوين الصحف الإماراتية تتحدث عن كيف أن الإمارات تتصدر دول العالم في استقطاب المواهب والكفاءات، وكيف هي رائدة في تقنيات الطاقة المتجددة والمستدامة، وماذا لديها من خطط للتكامل المحلي والإقليمي الاستراتيجي والاقتصادي والابتكاري. الشباب الإماراتي يفتخر بأنه يواكب المستقبل بكل ارتياح، يحمل الهاتف الذكي بلا انقطاع، لا يهمه إن اتُهِّمَ بالانقطاع عن الهيئة المحيطة به. فهو يريد أن يحلم، وهو يود أن يبتكر، وهو يتمتع بحقه في السعادة.

 

 

أداء الحكومات ليس مجرد شعار بل هو حقاً ما يؤثر في بناء أو خراب الدول. هذا هو واقع اليوم وهذا هو واقع المستقبل. فلا خلاص من الحكومات في عصر هيمنة «الآليون» Robots على أسواق العمل بدءاً من نهاية هذا العقد، ذلك أن على الحكومات أن تقرر ماذا ستقدم لليد العاملة التقليدية البشرية في ظل الثورة الآلية الآتية قريباً جداً. ولا مناص من استكشاف معايير النمو الاقتصادي وتأثره بسياسات الحكومات.

 

 

فبحسب أحدث تقرير من مجلس سياسات الأعمال الدولية التابع لشركة الاستشارات الإدارية العالمية «أيه تي كيرني» نشرته بالتزامن مع القمة العالمية للحكومات، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في طريقها لتحقيق أحد أعلى معدلات النمو الاقتصادي بحلول 2020. إنما هذا النمو يتأثر مباشرة بالسياسات الحكومية خلال السنوات الخمس المقبلة.

 

 

قمة استشراف حكومات المستقبل سعت وراء تنبيه الحكومات إلى المسؤوليات الضخمة الآتية. انطلقت من حديث المؤسس والرئيس التنفيذي «للمنتدى الاقتصادي العالمي» كلاوس شواب الذي سأل «هل بدأت الثورة الصناعية الرابعة»؟ شرح كيف أن الثورة التكنولوجية والابتكارية آتية إلى العالم أجمع مثل «التسونامي»، وقال إن على المنطقة العربية ألا تخاف وتهرب منها، بل أن تتهيّأ للمشاركة فيها بذكاء وجرأة وصلابة.

 

 

فالكل على عتبة جديد ضخم آتٍ، والفرصة متاحة للجميع للتموضع للمساهمة الفعلية بدلاً من اللهث وراء الحدث لفهمه بعد فوات الأوان.

 

 

أستاذ الفيزياء والمشاركة المجتمعية في العلوم في جامعة سري، البروفسور العراقي الأصل، جيم الخليلي أخذ الثلاثة آلاف مشارك في القمة إلى العصر الذهبي للعرب بعنوان «عندما تحدّث العالم العربية: الإرث المنسي للحضارة العلمية العربية». أذهلنا بتاريخنا وذكّرنا أننا تمكنّا من تجاوز العقبات في الماضي، وفي وسعنا أن نتمكن مجدداً.

 

 

أجندة القمة كانت غنية في فتح الأذهان على ما هو آت إلى حياتنا العادية كما نعرفها بتحدٍ للمخيلة. مثلاً، شرح البروفسور سوجاتا ميترا كيف أن الجيل القادم من المدارس هو «المدارس السحابية». الدكتور بيتر ديامانديس الشريك المؤسس لجامعة «سنغولارتي» شرح كيف سيكون شكل الجامعات في ظل مستقبل متسارع. فالطفل سيعلم نفسه ويصنع بنفسه تخصصه. وسيأتي اليوم الذي يسأل فيه أحفادنا: ماذا كنتم تقصدون عندما كنتم تقولون «أنا أعرف». ذلك أن المعرفة والمعلومات ستزداد آنية لدرجة ستتطلب الانتقال من السعي وراء المعرفة والتحدث بلغة «اعرف» إلى مركزية أهمية الفضول وحسن طرح الأسئلة. فكيف ستتأقلم المدارس والجامعات مع المستقبل الآتي بعدما كرست مواردها لتطوير ما «تعرفه» وما يفترض أن تقوم به «لتعريف» الأجيال عليه.

 

 

تحت عنوان «المستقبل البعيد: كيف سيكون العالم بعد أكثر من عشرين عاماً» تحدث كبار الخبراء، بتساؤلات وبمواقف، عن أمور مثل: هل ستسيطر الروبوتات على العالم في المستقبل الآتي بسرعة تسونامي؟ هل الروبوتات هي الحل؟ ماذا بعد طباعة الأعضاء البشرية». نهاية الإعاقة: مستقبل الأطراف الاصطناعية.

 

 

ثم ماذا سيحدث في العالم بعد أكثر من عشرين عاماً؟ هل سيكون سن التقاعد الجديد 100 عام؟ وماذا تفعل الحكومات للتأقلم مع واقع كهذا». ماذا لو أن ما هو آتٍ الاحتفاء بعيد ميلادك الـ200؟ ماذا سيحدث في حيناك، تساءل أحدهم، في العلاقات الزوجية التي بُنيَت أساساً على دوام العلاقة لحوالى 30 سنة في البداية و50 سنة الآن. هل سيتمكن الزوجان من التعايش معاً لمئة سنة؟ قال آخر، هل سنبقى في مهنة واحدة كتخصص، كما هي الحال الآن؟ أم أن الملل سيجبره على التفكير بالإقلاع عن التخصص في مهنة واحدة والبدء بالتخصص بأربعة مهن متتالية؟

 

 

عالم ساحر آتٍ إلى القرن الواحد والعشرين يمكن الشباب العرب أن يكونوا فيه جزءاً متساوياً مع شباب العالم. هذا إذا أحسنت الحكومات الأداء واستشراف المستقبل.

 

 

كان محزناً الاستماع إلى رئيس الوزراء المصري، شريف إسماعيل، يتحدث عن الواقع في خضم التلهف إلى المستقبل عندما قال أنه تمت تغطية 15 في المئة فقط من القرى المصرية بمشروع الصرف الصحي، ومن المقرر أن يغطي هذا المشروع 50 في المئة من القرى المصرية خلال ثلاث سنوات.

 

 

كان مؤلماً قول نائب الرئيس اليمني، رئيس مجلس الوزراء، خالد بحاح من منصة قمة المستقبل أن اليمن سيعود سعيداً، ذلك لأن حديثه عن السعادة كان له طعم الخيال.

 

 

كان صعباً التمتع التام بالرحلة إلى المستقبل على رغم متعة المشوار في ظل الأنباء المرة الآتية إلى مدينة اليوم دبي، من مدينة الأمس العريقة، حلب. فالانقطاع صعب في زمن التواصل الدائم. فما بين خطف الأنفاس دهشة وبين قطع الأنفاس كسياسة اختناق مسافة مذهلة.