من انتصارات جمال عبد الناصر على الاستعمار والرجعية مروراً بيدي صدام حسين القابضتين على سيفين لتشكلا قوس نصر ضخم على الفرس في بغداد وصولاً إلى انتصار حركة «حماس» على إسرائيل في أيلول (سبتمبر) الماضي، يبدو أن شيئاً ما يحول دون تمتع العرب بالقدرة على تثمير انتصاراتهم المشهودة.

 

 

ويظهر من عودة «الانتصارات الإلهية» والأيام المجيدة في لبنان عامي 2006 و2008، وفي غزة عامي 2012 و2014، وفي الموصل والأنبار الصيف الماضي، أن الصدمة التي أحدثتها هزيمة 1967 وحملت بعض القوى السياسية والحزبية على إعادة النظر في مفاهيمها، كانت سطحية جداً ولم تزعزع «الوعي الظافري» الراسخ في القدم.

 

 

ثمة انتصارات استراتيجية حققها حافظ الأسد في جلساته مع ديبلوماسيين غربيين كادوا أن يموتوا مللاً من كلامه عن التاريخ العربي. وهناك انتصارات حققتها «المقاومة» بعد أن جرت إسرائيل إلى تدمير البنية التحتية (من دون أن تمس تلك «الفوقية») والاقتصاد في لبنان وفلسطين، على رغم أن العدو الصهيوني -الذي يعترف بنقاط ضعفه ونواقصه وأخطائه- ظل يقيم سعيداً في بلادنا المحتلة.

 

 

ثالثة الأثافي انتصارات «الخلافة الداعشية» بين الأنبار وحلب. خليط بشري تُختصر فيه كل إخفاقات الحداثة ومشروعها في العالم العربي منذ مئة عام، يتمدد مُنتجاً استبداداً ما بعد حداثي على حساب شعوب لامبالية وديكتاتوريات طائفية ودموية.

 

 

ولنسلّم جدلاً أن الأحداث هذه تنطوي على انتصارات حقيقية. ولنرَ تبعاتها. توج عبد الناصر انتصاراته بـ «النكسة» التي لم يتحمل تسميتها باسمها الصريح. وانتهت حرب تشرين (أكتوبر) إلى إقفال الجبهات العسكرية مع إسرائيل وتدشين الحروب الأهلية في لبنان. النصر في حرب تموز (يوليو) 2006 أفضى إلى الكشف عن عمق الأزمة غير القابلة للحل التي خلفتها جريمة اغتيال رفيق الحريري وانهيار إمكان بناء دولة مستقلة. أمر مشابه يقع في غزة والضفة بعد انهيار محاولات المصالحة بين «فتح» و»حماس» وعودة لهجة التخوين المتبادل وبالتالي عودة مساعي الوفاق إلى نقطة الصفر أو إلى ما يدانيها. هذا ناهيك عن أن انتصار صدام حسين في «قادسيته» أسفر عن إفقار العراق ما حمل «القائد الضرورة» على الاعتقاد بقدرته على تحدي النظام العالمي وغزو جارته الصغيرة، الكويت، فنال انتصاراً آخر في «أم المعارك».

 

 

يقود العرض السريع إعلاه إلى اعتقاد ليس بنقص في ملَكَة التمييز بين النصر والهزيمة وحسب، بل في فهم معنى الانتصار عند جماعات ودول لا تستطيع صوغ برنامج للاستفادة من أي تحسن في أدائها الميداني (1973 و2006 مثلا) إلا وتلحقه بمشاريع لتأبيد الاستبداد أو إعادة إشعال الانقسامات الأهلية والطائفية.

 

 

ليس الانتصار على العدو الخارجي، بالمعنى هذا سوى مبرر للانقضاض على السلطة في الداخل وتهميش الأعداء الحقيقيين هنا، الأخطر عند المنتصرين من المحتل والمعتدي. فهذا لا ينازعهم على سلطة وهيمنة بعكس خصومهم المحليين. عليه، لا يكون برنامج المنتصر على العدو الخارجي إلا نقل الانتصار هذا (حتى لو كان كارثة مدوية) إلى تصفية حساباته الداخلية.

 

 

كان هذا يجري قبل احتلال الأعداء الداخليين والأشقاء رأس أولويات الدفاع عن حياض الجماعة. فاجتهد «حزب الله» في رصفه التكفيريين والإرهابيين والملحدين في معسكر واحد مع إسرائيل وأميركا، وردت الجماعات السورية المسلحة التحية بأحسن منها بالتهديد باجتياح لبنان.

 

 

وما زال خطباء الجماعات والطوائف يعدون جماهيرهم بالمزيد من الانتصارات.