حصرت قوى السلطة خياراتها لمقاربة الأزمة المالية بين الإجراءات الموجعة وبين الانهيار. تحت هذا العنوان، تبيّن أن الوجع موجّه ضدّ موظفي القطاع العام الذين ناضلوا أكثر من خمس سنوات لتحسين رواتبهم المتآكلة بفعل التضخم، فيما كانت قوى السلطة تعمل لإحاطة شركائها من حَمَلَة الثروات بعازل يمنع عنها أي إجراء، علماً بأنه لو طاولتهم إجراءات التصحيح، ومهما كانت قاسية، فلن تشكّل وجعاً لهم، بل بداية لإعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية والاقتصادية

قبل أيام من انكشاف المستور حول طروحات قوى السلطة بمدّ اليد على أجور القطاع العام ورواتبه، كان وزير المال علي حسن خليل يطرح على مجلس الوزراء ملفاً يتعلق بإعفاء 14 شركة مصنّفة ضمن كبار المكلفين من غرامات التحصيل البالغة 46 مليون دولار، ومن غرامات التحقق البالغة 68.8 مليون دولار، أي ما مجموعه 115 مليون دولار. هذا المشهد ليس سوى عيّنة بسيطة جداً من الامتيازات التي منحتها قوى السلطة لأصحاب الرساميل. بالشراكة في ما بينهم على مدى عقدين ونصف عقد، راكموا ثروات طائلة شبه مُعفاة من الضريبة. وعندما لاحت بوادر الأزمة المالية، صبّت قوى السلطة كل حقدها على القطاع العام، في محاولة لتجنيب هذه الثروات المشاركة في فاتورة التصحيح المالي، بعيداً عن التوزيع العادل للفاتورة الذي يقتضي البحث في خيارات أخرى ليس بالضرورة أن تكون رواتب القطاع العام ضمنها، بل أبرزها تحسين النظام الضريبي ليطاول هذه الثروات، سواء عبر مكافحة التهرّب أو عبر تعديلات تصيب شرائح كانت شبه معفاة سابقاً.


مقايضة بائسة
في ظل سلوك ينطوي على إعفاء كبريات الشركات المصرفية والعقارية، في مقابل المسارعة لمدّ اليد على رواتب القطاع العام، «لا أمل في هذه القوى من أن تقوم بالإصلاح، أو أن تتخذ قرارات إصلاحية»، يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية جاد شعبان. أصلاً سلوك السلطة لم يتغيّر رغم إدراكها لدقّة الوضع المالي وحساسيته. خطّة الكهرباء هي المثال، وفق رئيس المركز اللبناني للدراسات سامي عطالله. «أظهرت قوى السلطة أنها قادرة على إقرار خطّة للكهرباء تتفادى فيها المرور بالمؤسسات وإطلاق المناقصة بعيداً عن أي صلاحية لإدارة المناقصات، وبشكل مخالف للدستور... هي أصلاً ليست مهتمة ببناء الدولة».
 

 


والأنكى من ذلك، أن بعض قوى السلطة تروّج حالياً لفكرة أنه في حال عدم تمكنها من إمرار خفض أجور القطاع العام ورواتبه، فإنها ستكون مضطرة للجوء إلى رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% وإخضاع استهلاك البنزين لضريبة مقطوعة بقيمة 5 آلاف ليرة... وتمارس في هذا الإطار التهويل نفسه لإقناع اللبنانيين بخياراتها للتصحيح المالي. أبرز تعبير عن هذا الوضع ما ردّده رئيس الحكومة سعد الحريري في أكثر من مناسبة: «البلد إذا سقط فسنقع كلنا معه»، وما صرّح به وزير الخارجية جبران باسيل: «لن يبقى معاش لأحد».
تحت هذه العناوين، اتفقت بعض قوى السلطة، سرّاً، على حلّ يناسبها ويقوم على مقايضة بين خفض الأجور والرواتب في القطاع العام بقيمة 900 مليون دولار، وبين رفع الضريبة على الفوائد من 7% إلى 10% لتوفير 500 مليون دولار. هذان الطرحان يوفّران أكثر من 1.4 مليار دولار، أي ما يوازي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويمكن أن تصل نسبتهما إلى 3% من الناتج، بما يحقق الهدف المطلوب تنفيذه لتحرير أموال «سيدر». وباستثناء باسيل، لم تجرؤ هذه القوى على المجاهرة بهذه المقايضة.


في الأصل، إن مبدأ المقايضة المطروحة ليس فيه أي عدالة اجتماعية، إذ «لا يمكن تحميل الفئات الأضعف في المجتمع تبعات فشل النموذج الاقتصادي. إنه تصرف دنيء وطبقي وغير عادل وينطوي على قصر نظر كبير» يقول شعبان. فالمقايضة المطروحة تأخذ من 300 ألف أسرة تمثّل الطبقة الأقل قدرة في المجتمع، ضعفي ما سيؤخذ من كل المودعين. وإذا أخذنا في الاعتبار أن 0.86% من مودعي المصارف يملكون ودائع تفوق 87 مليار دولار، مقابل 59% من المودعين الذين يملكون نحو 1 مليار دولار، يتبيّن أن الأكثر قدرة في المجتمع هم شريحة ستدفع القليل القليل، وأن قوى السلطة تضعهم في درجة واحدة مع الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.

التعديل الضريبي: الحلّ البديل
لا يغفل الخبراء الحديث عن النظام الضريبي كأداة لإعادة توزيع الثروة في بلد «1% من مواطنيه يتحكمون بنحو 20% من الثروات» وفق شعبان. إلا أنه قبل أي بحث في أي طرح «يجب النظر في الإيرادات» برأي عطالله. فمن الواضح أن هناك «شركات لا تدفع ضرائب، وهناك متهربين من الضريبة، وهناك مشاكل في تحصيل الضرائب، فضلاً عن انعدام العدالة في النظام الضريبي السائد... يمكن أن يحصّل لبنان 1.25 مليار دولار إضافي سنوياً كإيرادات، أي ما يعادل التعهدات التي تقدّم بها للدول المانحة في مؤتمر سيدر (11 مليار دولار على مدى 10 سنوات)» يقول عطالله.
وزيادة الإيرادات ليست نظرية، بل هي حقيقة علمية يمكن قراءتها في مؤشّر «نسبة الإيرادات الضريبية إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي» بحسب عطالله، إذ يسجّل لبنان 13.6% بينما المعدل العالمي للبلدان المتوسطة الدخل يبلغ 16.4%. «زيادة الإيرادات الضريبية بنحو 2.8% من الناتج هي الزيادة الضرورية لمجاراة البلدان النظيرة». هناك الكثير من الحلول التي لا تمرّ برواتب القطاع العام. عطالله يرى أن هناك إمكانات غير مستغلّة للضرائب على أرباح الشركات تمثّل أكثر من نصف الضرائب التي تدفع فعلياً. يستند عطالله إلى تقرير صدر أخيراً عن بنك عوده يقدّر الفجوة الضريبية بنحو 5 مليارات دولار «هذه الفجوة تساوي عجز الموازنة العامة تقريباً».


والأسوأ من ذلك، أن بقاء هذه الفجوة هو لمصلحة الأثرياء. يشير عطالله إلى أن «استمرار النظام الضريبي السائد بالتعويل على الضريبة غير المباشرة يصبّ فعلياً في مصلحة الأغنياء على حساب الفقراء». ويتعزّز هذا الأمر بالنظر إلى توزّع مصادر نموّ الإيرادات الضريبية. إذ يتبيّن أن الرواتب والأجور تستحوذ على المعدل الأكثر نمواً بين مصادر الإيرادات الأخرى وتبلغ 12.8% خلال الفترة ما بين 2008 ــ 2016. في المقابل، يبلغ معدل نمو أرباح الشركات كمصدر للإيرادات ما نسبته 8.5%. هذه الاستنتاجات ينقلها عطالله عن الباحثة ليديا أسود التي خلصت إلى أن «هذا التوزّع غير العادل للعبء الضريبي على الشرائح الاجتماعية أسهم في زيادة التفاوت في الدخل والثروة بشكل كبير».
ويعتقد شعبان أن المقايضة يجب أن تحصل بين الدولة والمصارف، لا بين الدولة والقطاع العام. «فمن الطبيعي أن تُحمَّل الجهة التي استفادت جداً كلفة التصحيح. المصارف تربح ما يفوق ملياري دولار سنوياً أكثر من نصفها من الدين العام، ومن العادل أن تشارك مع مصرف لبنان باستبدال الديون المرتفعة الفائدة بديون جديدة فائدتها صفر في المئة. العدالة الاجتماعية تقتضي ألا تدفع الطبقات العاملة هذه الفاتورة بمن فيهم موظفو الدولة الذين يدفعون ثمن التقشف الذي ينعكس سلباً على معيشتهم».
أما بالنسبة إلى مسألة رفع الضريبة على الفوائد، فهي تعدّ من الإجراءات المهمة في إطار التوزيع العادل لفاتورة التصحيح، إلا أنه ــ برأي شعبان ــ يجب أن تكون تصاعدية لتصل إلى أكثر من 15% على الودائع الكبيرة، وأن تكون تصاعدية أيضاً بالنسبة إلى ضريبة القيمة المضافة أيضاً. هذا هو التصحيح الأساسي» بحسب شعبان.
إذاً، المسألة تتعلق بمن سيدفع فاتورة التصحيح المالي: هل الخيارات محصورة بالقطاع العام؟ ألا يجب أن يدفع المستفيدون من الوضع القائم الحصّة الأكبر من الفاتورة؟ المشكلة برأي شعبان أن الجواب معروف سلفاً، لأن «أصحاب المصارف هم أنفسهم القوى السياسية».