بُعدان يتحكّمان في الاستحقاق الرئاسي في لبنان: البعد الداخلي والبعد الخارجي، وغالباً ما كان يطغى البعد الثاني على الأول، فما هي الظروف المحلية والخارجية لاستحقاق أيلول الرئاسي؟

لا تبدأ الانتخابات الرئاسية مع بدء المهلة الدستورية، إنما تبدأ عملياً مع دخول الولاية الرئاسية في سنتها الأخيرة، ولكن مع الاستحقاق الحالي بدأت فعلياً بعد الانتخابات النيابية في 15 أيار، ومع تأخُّر الاستشارات النيابية لتكليف رئيس حكومة إلى 23 حزيران أصبح من الخطيئة التفكير بتشكيل حكومة تحرف الأنظار عن الاستحقاق الرئاسي الذي يجب إنضاج ظروفه الداخلية والخارجية من أجل إتمامه في مطلع الولاية الدستورية لا آخرها، ويستحيل إنضاجه بالتزامن مع تأليف حكومة لن تقدِّم ولن تؤخِّر في حال تألفت في غضون 4 أشهر تفصل البلاد عن نهاية عهد الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول.

 

فما الغاية صراحة من تأليف حكومة ستتحوّل إلى حكومة تصريف أعمال بعد 4 أشهر، هذا في حال تألفت بأيام، وهي لا تتشكّل عادة سوى بعد أشهر من شدّ الحبال تأسيساً على كل التجارب السابقة؟ وهل هناك من لا يريد إجراء انتخابات رئاسية ويَتقصّد الفراغ الرئاسي، وهذا ما يفسِّر سعيه لتشكيل حكومة؟ وأين المصلحة في إثارة الغبار الحكومي في الوقت المطلوب فيه انقشاع الرؤية الرئاسية؟ وهل يعقل مجرّد التفكير بتأليف حكومة قبل شهرين من بداية المهلة الدستورية الرئاسية، وذلك بدلاً من تحويل هذه المدة إلى مشاورات واتصالات تُفضي إلى انتخاب رئيس للجمهورية في مطلع أيلول؟

 

فالسعي إلى تأليف حكومة غير بريء، وكل الهدف منه في حال كان جدياً إمّا تهريب الانتخابات الرئاسية وسط ضجيج صراعات التأليف، وإمّا استبدال انتخاب الرئيس بحكومة سياسية ريثما تنضج الظروف التي يتمكّن فيها فريق 8 آذار من فرض انتخاب مرشحه الرئاسي؟ وفي كل مرة تدخل فيها البلاد في عملية تأليف حكومة يرتفع منسوب التوتر السياسي والاحتقان الشعبي وغالباً ما يتحوّل التأليف إلى صراع طائفي اعتاد عليه العهد عندما لا يتجاوب الرئيس المكلّف مع مطالبه فتبدأ مطالباته بتحديد مهمة التكليف بسقف زمني، وبالتالي إذا كانت نيات القوى السياسية جادة في تجنُّب الفراغ الرئاسي، فلماذا لا تكرِّس وقتها وجهدها لإنضاج ظروف انتخاب رئيس جديد للجمهورية في مطلع أيلول المقبل، وكل ما هو خلاف ذلك غير مطمئن على الإطلاق ويعني انّ التأليف الحكومي هدفه التفريغ الرئاسي، فضلاً عن انّ حكومة تصريف الأعمال الراهنة تعتبر من الحكومات غير الاستفزازية وبإمكانها إدارة هذه المرحلة القصيرة بسلاسة وهدوء ومن دون ضجيج سياسي؟

 

ومن هذا المنطلق يجب ان تتوافق القوى السياسية بجرأة على تجميد التأليف وإطلاق مشاورات الانتخابات الرئاسية، خصوصاً انه بالكاد يمكن التوصُّل إلى تفاهم حول هذا الاستحقاق في هذه الفترة القصيرة الفاصلة عن أيلول، ومع انتخاب رئيس جديد يُعاد تكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة وتَدخل البلاد في مرحلة سياسية جديدة يُمنح فيها الفريق الحاكم الجديد فرصة ويمكن ان يُستعاد معها عامل الثقة، فيما تشكيل الحكومة اليوم يشكّل استمراراً لوضع قديم ويفتقد إلى الثقة في الداخل والخارج وخطوة لزوم ما لا يلزم، ما يعني انّ الرئاسة تتقدّم على الحكومة بكل المقاييس.

 

وبما أنّ لكل استحقاق رئاسي ظروفه، ومثال على ذلك انّ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية حصل قبل أسبوع تقريباً من انتخاب الرئيس دونالد ترامب، ولو تأخّرت جلسة الانتخاب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية لَما انتخب، ربما، عون رئيساً، ومن هذا المنطلق يجب الأخذ في الاعتبار الظروف المحلية والخارجية لهذا الاستحقاق:

أولاً، على مستوى التوازن الدولي فهو مُختلّ لصالح واشنطن مع انكفاء موسكو عن المسرح الإقليمي بسبب تخبُّطها في الحرب التي شنّتها على أوكرانيا، ما يعني انها عملياً خارج دائرة التأثير، ولكن واشنطن اليوم ليست كما كانت عليه في زمن صعود قوى 14 آذار في عامي 2007 و 2008 عندما دعت إلى انتخاب رئيس من هذه القوى وبالنصف زائداً واحداً، بمعنى انها ليست منحازة في هذا الشكل المعلن إلى فريق سياسي لبناني، وجلّ ما يهمها من هذا الاستحقاق حفاظ لبنان على استقراره الدستوري والسياسي والمالي، إلّا انها في الوقت نفسه تفضِّل عدم انتخاب رئيس للجمهورية من قوى 8 آذار يُساهم في تعزيز وضع «حزب الله» وترييحه، والدليل انّ علاقتها مع الرئيس عون على رغم حيثيته التمثيلية لم تتجاوز الإطار البروتوكولي بحده الأدنى ولم تتدخّل لتجميد عقوبات على صهره ورئيس تياره النائب جبران باسيل بالحد الأقصى.

 

وما ينطبق على واشنطن ينسحب على باريس المُنغمسة في تفاصيل الملف اللبناني وتحديداً على أثر انفجار المرفأ والمبادرة الفرنسية، وعلى رغم خطوطها المفتوحة مع كل القوى السياسية في لبنان، إلا انها تفضِّل انتخاب رئيس لا ينتمي إلى الانقسام السياسي القديم المتمثِّل بـ8 و 14 آذار وان يكون على صورة مرشحها الحكومي الدكتور مصطفى أديب لترجمة مبادرتها الفرنسية.

 

ثانياً، على مستوى التوازن الإقليمي حصلَ انتخاب الرئيس عون في مرحلة صعود الدور الإيراني في المنطقة خلافاً لواقع الحال اليوم مع انكفاء طهران وصعود الدور السعودي الإقليمي الذي أعادَ الشبك مع كل الدول الخليجية والعربية وصولاً إلى تركيا ونشوء محور غير مُعلن بقيادة المملكة التي تتحضّر لاستقبال الرئيس الأميركي في منتصف تموز المقبل.

 

وعَدا عن صعود محور الاستقرار في المنطقة على حساب الدور الإيراني المُزعزع للاستقرار، فإنّ طهران لم تقدِّم اي نموذج حُكم صالح لا داخل إيران ولا خارجها، وتشهد اضطرابات اجتماعية وهي في حرب أمنية مع إسرائيل تسجِّل فيها الأخيرة اختراقات غير متوقعة للأمن الإيراني، كما انّ مفاوضاتها النووية مجمدة ولا يبدو انها ستتحرّك قبل انتهاء الانتخابات الأميركية النصفية.

 

وقد نجحت الرياض في توجيه رسالة واضحة مفادها انها غير مضطرة الى مواصلة دعم دولة تمّ خطفها وتستخدم ضدها، وأظهرت الوقائع والأرقام انه من دون الدعم السعودي يعني انّ الأزمة المالية اللبنانية ستراوح إلى ما شاء الله، وهذا يعني أيضاً انّ انتخاب رئيس للجمهورية من 8 آذار يؤدي إلى تمديد الأزمة لولاية رئاسية جديدة، وهذا عدا طبعاً عن انّ ميزان القوى الإقليمي أصبح «طابشاً» لمصلحة الرياض على حساب طهران.

 

ثالثاً، على مستوى المحلي أدّت الانتخابات النيابية الأخيرة إلى خسارة فريق 8 آذار أكثريته الواضحة، ودلّت على تراجعه في كل البيئات اللبنانية، والمزاج اللبناني العام لا يمكن ان يتقبّل انتخاب رئيس من 8 آذار لأنه مُرادِف لثلاثية: استمرار الأزمة، استبعاد الإصلاحات، تعليق الدستور. وهذا النموذج حكم وممارسته أوصَلت لبنان إلى ما وصل إليه، ويستحيل التمييز بين شخص وآخر داخل هذا المحور، لأنّ المشكلة الأساس هي في دينامو هذا المحور الذي يتنافى دوره مع دينامية الدولة.

 

هذا في الصورة العامة، أمّا في التفاصيل فوضع الرئيس عون الشخصي والتمثيلي يختلف عن وضع مرشحَي هذا الفريق اليوم، ومعظم القوى لا تريد تكرار هذه التجربة، و«حزب الله» يَفتقد إلى الشريك السني، وورقة الفراغ لم تعد «جوكِراً» ابتزازياً كون ارتداداتها تصيب الحزب مباشرة الذي يخشى من تحميل دوره وسلاحه مسؤولية الانهيار المُتمادي، ويريد إعادة الاستقرار لاستبعاد الضغط عن دوره وسلاحه.

 

فالانتخابات الرئاسية تحصل إذاً وَسط ظروف دولية وإقليمية غير ملائمة لطهران، وظروف لبنانية غير ملائمة لـ«حزب الله». ولكن ماذا عن البرلمان اللبناني؟ وهل يمكن ان ينتخب رئيساً للجمهورية خلافاً للتوجّه الخارجي والمحلي؟ فالوقائع خارج البرلمان تستبعد انتخاب رئيس من 8 آذار، لكنّ الوقائع داخله مفتوحة على كل الاحتمالات.. وللبحث صلة..