«أراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ

أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ

بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ

وَلَكِنَّ مِثلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ

وَفَيتُ وَفي بَعضِ الوَفاءِ مَذَلَّةٌ

لِإِنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدرُ

قالت لقد أزرى بك الدَهرُ بعدنا

فقلتُ معاذَ الله بل أنتِ لا الدهرُ

فَلا تُنكِريني يا اِبنَةَ العَمِّ إِنَّهُ

لِيَعرِفُ مَن أَنكَرتِهِ البَدوُ وَالحَضرُ

سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم

وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ»

(أبو فراس الحمداني)

 

مِن جديد ألجأ إلى الشعر لاختصار طول الكلام بالرسم بالكلمات كما قال يوماً طيّب الذكر نزار قباني. هذه قصيدة عظيمة لمن أراد قراءتها بأكملها فهي تختصر ما نحن فيه اليوم من حال. شِعر ابن عم سيف الدولة الحمداني وأحد قادة جيوشه وأحد منافسي المتنبي، وإن عن بعد، وهي جزء من مجموعة قصائد «الروميات»، كُتبت، حسب الرواية، خلال أسره عند الروم!


لن أقحم نفسي في جدل السيادة العقيم، فالعالم اليوم مفتوح على بعضه في ظل العولمة المرتبطة بالرأسمالية. الرأسمالية اليوم قد تكون الصين الشيوعية أحد قادتها الميامين! وكلامي هنا ليس فيه أي تناقض، فعلى الرغم من أن الحزب الشيوعي هو ما زال حاكماً في الصين، لكنه يدير اقتصاداً رأسمالياً متوحشاً، لكن من دون ليبرالية، لا إقتصادية ولا اجتماعية ولا سياسية! في النهاية، فإن السياسات التي نحسبها سيادية، حتى عند أكبر الدول وأقدرها، تبقى عرضة للتعديل بناءً على المصالح الاقتصادية المعولمة. أما ما تبقى من وهم إسمه سيادة، فهو مرتبط بشماعة ما زالت قيد الاستخدام من قبل أنظمة التخلف الاجتماعي والثقافي والسياسي، وبالتالي الاقتصادي حتى وإن كانت دولة معينة غنية. هذه الشماعة تفترض أن لا دخل للعالم بما تفعله تلك الأنظمة بشعبها وبكيف تفرض خيارات تأبيد حكمها، خارج نطاق حقوق الإنسان والقواعد القانونية المرتبطة بشرعتها.


لكن، عندما يأتي الحديث عن لبنان، فيصبح الأمر مختلفاً بكامله، فمجرد أن ينطق مسؤول ما ويتذرع بالسيادة، يدخل مباشرة في حلقة النفاق، مجبراً كان أم بطلاً. فكيف لدولة يسيطر على أمنها قرار يأخذه ولي أمر قسري متمركز في طهران أن تتحدث عن السيادة؟ وكيف لدولة مفلسة تستجدي العطاءات من القاصي والداني أن تسوغ خياراتها بمنطق السيادة وكأن الدول والمؤسسات العالمية مجرد خزنة احتياطية لمقامر حرّ بقراره السيادي بالمقامرة المرضية في الحروب والفساد وسوء الإدارة. ففي أيام «شكرًا قطر!»، يوم دُمر لبنان بقرار غير سيادي، اتخذه ولي أمر إقليمي ونفذه ولي أمر محلي، أتاني أحد مبعوثي «المقاومة» يعاتبني على موقفي العلني ضد تصرفات هذه المقاومة المدمرة وغير السيادية. وعندما عرضت عليه نتائج تلك التصرفات من موت ودمار، كان جوابه تقريباً كما يلي «ما همكم أنتم فالشهداء منّا (أي شيعة)، أما عن الدمار فحكومتنا (السنيورة) شاطرة بالشحادة، وستتمكن من جلب المساعدات لتعمير ما دُمّر، فالمهم هو الكرامة!!!» لن أسترسل في ما تبقى من حوار، فالمغزى واضح لذوي الألباب.

 

المبادرة الكويتية اليوم قد تكون نافذة غير سيادية لدعم بعض السيادة اللبنانية تستدعي أن نقول «شكراً كويت». عندما قرأت بنودها، وبالأخص ما أتى حول القرار الدولي 1559، شعرت أن تلك المبادرة يجب أن تكون صادرة عن مجلس النواب ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية عن طريق وزارة الخارجية، لتصبح مطلباً لبنانياً من دول العرب والأمم المتحدة ومجلسها للأمن! بالطبع، فكلامي هذا ساذج رغم جديته، فلا مؤسسات في لبنان لديها ترف السيادة لتعلن عن موقف واضح يحمي مصالحها قبل سيادتها، ولا العرب يفصحون عن كيف يمكن دعم هذه السيادة في ظل الواقع المحلي، ولا مجلس الأمن الدولي في وارد ترك كل إشكالات العالم المزمنة والمستجدة لعلاج قضية لبنان، وربما قد يكون لبنان أحد وسائل التسويات الدولية كورقة يتم تداولها؟
الإشكال اليوم هو أن الدلع والتقية التقليديين اللبنانيين، وقد حفل بهما الرد على المبادرة الكويتية الخليجية العربية والدولية، قاصران عن أن يقنعا أحدًا، ولن تؤخذ في الاعتبار جملة «بما يتناسب مع المصلحة الوطنية والسلم الأهلي». فلو كان الواقع الشاذ الحالي يستند أو يدعم المصلحة الوطنية، لما أضحت مصالح اللبنانيين في خبر كان. لم يعد اليوم الدلع نافعاً، وهو الذي كان نافعاً في ما مضى، يوم كان لبنان «الفرفور ذنبه مغفور». الخليج العربي تغير جذرياً، وتغيرت فلسفة قياداته في السياسة والأمن والاقتصاد والأخوة، وتضاءل البعد العاطفي النوستلجي تجاه لبنان بعد غياب رواده القدامى الراحلين. كما أن بدائل لبنان أصبحت موجودة في تلك الدول وفي دول أخرى أكثر ترحيباً وأمناً، وربما أقل جحوداً. لكن الأهم هو أن الخطر أصبح داهماً على حدود تلك الدول، فقضية الحوثي، والحرب الفيتنامية الطابع في اليمن غير السعيد، ضيّقت صدر قيادات الخليج في خصوص تقبّلهم للرمادي في المواقف. في اختصار، لم يعد في إمكان من يطلب المساعدة من تلك الدول أن يستمر في الموقف الرمادي، فلم يعد ذاك النوع من التقية ينفع في ظل الخطر الداهم والوجودي.

 


لكن، ما هي الاحتمالات في ظل اختطاف الخيار السيادي اللبناني؟
الاحتمال أولاً لم يحصل، وهو أن يعلن لبنان الرسمي أن قراره مختطف وأن من يريد المساعدة على تغيير الوضع فليضع مقترحاته موضع البحث والتطبيق. وهذا غير ممكن طبعاً في ظل رد لبنان.


الاحتمال الثاني هو أن القرار مختطف بالفعل ولا قدرة للمسؤولين على البوح بالحقيقة طالما أن المسدس موجّه إلى صدورهم. وقد يكون هذا الاحتمال ممكناً على الأقل عند بعض المسؤولين.


الاحتمال الثالث هو أن يكون بعض المسؤولين متواطئين مع الخاطف، او مصابين بمتلازمة ستوكهولم، أو مستفيدين أو مقتنعين بصوابية الاختطاف! هنا قد يتعقد الأمر، فقد يمارس المستفيد التقية أحياناً لتفادي ما أمكن من التبعات، أما المقتنع فعليه المجاهرة بأنه ليس على الحياد، وبالتالي فلا حاجة له للذهاب إلى الكويت أو الرياض، بل إلى طهران لطلب المساعدة.


في المقابل، يقول البعض في الخليج، نخباً وعامة، ان اللبنانيين هم مَن أوصلوا انفسهم إلى ما هم عليه من اختطاف، إما بالتجاهل أو التسليم أو بالتآمر أو بالفساد والجبن أو باستحضار الدب إلى الكرم... وكل تلك الفرضيات صحيحة جزئياً، وتسببت بتشعّب المصيبة، لكن ما تجهله تلك النخب، التي تتنصل اليوم من «دم هذا الصديق»، هو أن هناك مسؤولية تاريخية للتجاهل العربي والتهرب من اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب، ومن ثم ترحيل المصائب المستعصية على عاتق آخرين، بعضهم كان وما زال أضعف حتى من أن يحتج. فترحيل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان كان في النهاية تخلياً عربياً، والتسويات مع نظام حافظ الأسد كانت أيضاً نهجًا عربياً، على رغم من الإقتناع بأنه كان يتلاعب بالعرب والعجم، وترك لبنان عرضة متكررة للوحشية الاسرائيلية منذ 1968، يوم دمرت الطائرات المدنية في مطار بيروت، ومن ثم كرّت السبحة في مقررات قمم لا حصر لها، تركت لبنان فريسة سائغة للتسلط الإيراني بسبب عدم القرار بالمواجهة منذ البداية.

 

من هنا، فإن الخيارات العربية اليوم لا يجب أن تستند إلى استسهال الأمر واعتبار أن لبنان كله كحكومة «فيشي» في فرنسا أثناء الاحتلال النازي، بل ان هناك مقاومة حقيقية، بديغول أو من دونه، تحتاج للدعم والحماية وحتى التبنّي على طريق استرجاع السيادة.