عندما تمَّت تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة، سرَت فرضية تقول إنّ الحل قد بدأ. فالرجل ليس مصاباً بالنحس الذي يصيب الرئيس سعد الحريري، أي ليس منكوباً بعلاقاته مع فريق الرئيس ميشال عون، أو مع المملكة العربية السعودية أو سوريا. لكن آخرين يقولون: بميقاتي أو بسواه، الانهيار لن يتوقف. هو اليوم في استراحة نسبية، وسرعان ما سينطلق مجدداً.
 
حافظ ميقاتي على صورته «الوسطية»، ولو أنّها احترقت جزئياً بنار المواقف الحادة التي اتخذها «نادي رؤساء الحكومات»، في فترات معينة، دفاعاً عن الحريري. وهذا ما أوحى بأنّ انتقال الحكومة من عهدة الحريري إلى عهدته هو نتيجة تدبير إقليمي- دولي شامل. وتالياً، أنّ التغطية لنجاح حكومته مضمونة سلفاً.

 

 


 

في الوقائع، هناك لحظة تقاطعت فيها مصالح الفرنسيين والإيرانيين والأميركيين على إنتاج تسوية ظرفية ومحدودة في لبنان. والهدف ليس الانطلاق في مسيرة الحل، بل كبح سرعة الإنزلاق نحو الهاوية. وفي التفاصيل، أنّ الفرنسيين خافوا من عواقب انهيار الدولة اللبنانية بكاملها، وأرعبتهم فكرة زوال الكيان اللبناني التي حذّروا مراراً من الوصول إليها خلال العامين الفائتين، على لسان وزير خارجيتهم جان إيف لودريان، فقرّروا التدخُّل سريعاً وبأي ثمن. والثمن دُفِع للإيرانيين تحديداً.

 

الفرنسيون خرقوا الجدار المسدود في الملف الحكومي، بعدما استحصلوا على التغطية من إدارة الرئيس جو بايدن. ويعتقد البعض أنّ تنازلات ضمنية قدّمها كل المعنيين بلا استثناء وسمحت بالتوافق، وأنّ هذه التنازلات ستظهر تباعاً خلال ممارسة الحكومة الميقاتية مهماتها. وهم يعتقدون أنّ اتفاقاً إقليمياً واسعاً سيتبلور في الأشهر القليلة المقبلة، وسيكون ميقاتي مهيأ للدخول فيه.

 

يعني ذلك أن يقبل لبنان بإعادة ترتيب علاقاته مع دمشق، فيما تقبل دمشق بإعادة ترتيب علاقاتها مع المنظومة العربية. وفي الموازاة، يتحرَّك ملف المفاوضات الحدودية مع إسرائيل بتغطية أميركية مباشرة وإيرانية غير مباشرة، ويتمّ إنجاز خطوات ملموسة فيها، ما يسمح لإسرائيل باستكمال نشاطها في التنقيب والاستخراج في البقعة المتوسطية المختلف عليها مع لبنان.

 


 

البعض يقول إنّ إسرائيل تقصّدت الإسراع في تلزيم شركة «هالبيرتون» الأميركية عمليات تنقيب جديدة في المتوسط، بهدف استفزاز لبنان الرسمي ودفعه إلى المبادرة في ملف المفاوضات. علماً أنّ الجانب اللبناني لم يقم حتى اليوم بأي خطوة قانونية مع الأمم المتحدة لتثبيت الخريطة الجديدة التي طرحها وتسبَّبت في تعطيل مفاوضات الناقورة، وفيها يُثبت حقّه في الحصول على مساحة 2300 كلم2، بدلاً من مساحة 860 كلم2 كانت محور التفاوض في الأساس.

 

ولكن، في مقابل فرضية «التنازل المتبادل»، ترفض الأوساط القريبة من الإيرانيين أن يكونوا قد تنازلوا في أي ملف. وتقول: «لقد جاءنا الفرنسيون ومعهم مباركة أميركية، وأبلغوا الينا أنّهم يوافقون على شروطنا للتسوية في لبنان فوافقنا. وهكذا، فإنّهم تنازلوا عن شروطهم السابقة واعترفوا بانتصارنا».

 

ووفقاً لهذا التفسير، تجرّأ الإيرانيون وقرَّروا تسيير بواخر المازوت والبنزين إلى لبنان، لإدراكهم أن لا الأميركيين ولا حتى الإسرائيليين في وارد التعطيل. ولم يكتفِ الأميركيون بالسكوت عن البواخر، بل طلبوا من حكومة حسان دياب أن تنفتح اقتصادياً على نظام الرئيس بشار الأسد، مع علمهم أنّ الانفتاح الاقتصادي سيقود حتماً إلى انفتاح سياسي واسع.


 

ولكن اللافت هو وجود إرادة لإراحة حكومة ميقاتي، قدر الإمكان، قبل انطلاق عملها الجدّي. وتمّ تخفيف عدد من الأعباء عنها مسبقاً، وتحمّلتها حكومة حسان دياب قبل رحيلها. وفي أسوأ الحالات، تمّ اتخاذ القرارات بشأنها في المرحلة الانتقالية، أي قبل نيل حكومة ميقاتي الثقة. وأبرز هذه القرارات:

 

1- «تطبيع» دخول المازوت الإيراني. وقد غطّاه ميقاتي بعبارة عَرَضية وجرى تنسيقها مع الجميع مسبقاً، إذ «أسِف لانتهاك سيادة لبنان».

2- إطلاق مسار الحوار مع دمشق، تحت سقف «معاهدة الأخوَّة والتنسيق».


3- المهل الحاسمة، المتعلقة بالوضع النقدي، ومعها رفع الدعم نهائياً، وكلها تنتهي في أيلول، أي قبل أن تبدأ حكومة ميقاتي مهماتها في شكل فاعل.

 

هل هذا يعني أنّ ميقاتي يحظى بوكالةٍ تسمح له بـ»فرملة» الانهيار، أو على الأقل تنظيمه وتطويق أضراره؟

 

من المبكر الإجابة. ولكن، هناك إشارات يجدر التدقيق فيها، وهي تتكفَّل بتقرير مصير الحكومة الميقاتية:


 

1 - هل مِن مناخات جديدة ستظهر مع عودة السفيرة الأميركية دوروثي شيا إلى بيروت؟

2 - هل فعلاً سيقاطع السعوديون حكومة ميقاتي، كما توحي المؤشرات حتى الآن، أم إنّهم سيلينون مواقفهم من الحكومة بعد الحصول على تأكيدات معينة؟

3 - في أي اتجاه، وإلى أي مدى، سيتطور المناخ السياسي على خط بيروت- دمشق؟

4 - ماذا تفكر إسرائيل، وماذا ستفعل، في ملف المفاوضات الحدودية والتنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان؟

 

5 - هل سيُضبط الوضع النقدي والمالي والاقتصادي بعد رفع الدعم في أيلول، نتيجة لتعاميم مصرف لبنان، أم ستنطلق موجة تضخّم جديدة وتواصل الليرة انهيارها؟

6 - ماذا ينتظر البلد سياسياً، فيما الجميع يريد حماية رأسه في الانتخابات الحساسة المنتظرة؟

 

نتيجة لهذه الإشارات سيتقرَّر إذا كان ميقاتي على وشك الدخول في دائرة من الأمان النسبي، على رأس حكومته، أو إنّ حكومته ستمضي بالبلد نحو أعماق جديدة في جهنم.