وأنت أيضاً قرّرت أنْ ترحلَ يا صديقي...

أن تحملَ تابوتك وتمشي كنجمةٍ تفلّتَتْ منْ سماءٍ والليلُ ظلام.

 

وأنت أيضاً يا صديقي، عن الصَهْوةِ ترجَّلْت، وعن الساحِ تَرحَّلْت، والفواجع الكبائر إلى الكبار ترنو، وما عهدتُكَ تترك المشعل حتى ولَوْ أحرقَك اللَّهب.


 
 

تخيّلتُكَ وأنتَ على سرير المعاناة، تتصارع مع الموت في غيبوبةِ الصمت ويقظة اللاّنهاية، كأنك ترثي الوطن، والرثاء عندك بشائرُ قيامةٍ في دخان أبيض.

 

أنت، يا أنت، سماحةُ نفْسٍ، نقاءُ خلُقٍ، شمولُ ثقافةٍ، شموخُ شهامةٍ، قويٌ على تواضع، مهيبٌ على عطفٍ، سخيٌّ على نبلٍ، رفعةٌ على وداعةٍ، إنْ صادقتَ صدقتَ، وحفظتَ المودّاتِ والذِمَم، صديقك هو أنتَ، وأنتَ ذاتٌ تنثر الورد والودّ.

 

في مجلسك الطاغي بالأنْس نتلَّمس لذائذ ثقافةٍ زاخرة بالفرائد، في خاطرك لكل موضوع أفقٌ ولطائفُ فكر وأدبٌ وشعر، وعلى لسانك سدادُ رأيٍ وصفاءُ ذهنٍ، وحِكَـمُ المتنبي، وجلائل القرآنيات ومسيحية بولس الرسول.

ينـتشي السامعُ إليك صاغراً، فلا يشتهي أن يتكلّم بل يطيب لـه أن يستمع ويتعلّم.

 

في الصحافة والنيابة والوزارة لم تكن إلاّ سيفاً يقطع بالحقّ، صلابةٌ وطنية، مسؤولية سياسية وحكمة رأي.

يوم كانت الأحكامُ تفتقر إلى قـرار، كنتَ الحجَّةَ أنت...

ويوم كانت تتقلّص جرأة الرجال كنتَ الفارس أنت...

ويوم كانت القصور تعاني القصور كنتَ المرشد أنتَ...

ويوم تشغر المناصب العاليات كانت الأنظارُ تشمخ إليك أنت.

ويوم انشطر لبنان إلى شرقية وغربية كنت أنت خطّ التماس الإنساني.

 

ويوم انقسم اللبنانيون طوائف وأحزاباً ومذاهب كنتَ أنت إلى كل القلوب قريب، تسعى إلى وصْل ما انقطع وإلى كلِّ ما جمع، وما أجمع اللبنانيون على محبة رجل وصداقته واحترامه إلاّ كنت أنت.

 

وبقيت أنت الرجل الذي يشرئب الرأس عالياً لا ينحني لسيفِ تهديدٍ أو وعيد، ثائراً على صمت، لا مواربة، لا مخادعة، لا مساومة، لا جشع، لا استغلال، ولا قبضة يـدٍ إلاّ ناصعة كما الثلج.

 

يا صديقي...

وأنت تتعشّق العاليات، ترحل إلى فوق، فوق وطنٍ لم يجفّ فيه نزف الجرح على القتيل، لعلّك في ملكوتك تحافظ على لبنان مشعلاً لا يترمّد فيه الإنسان في ترابية الأرض.