لا شك أن لا خسارة تعلو على الكارثة الصحية التي تعانيها البلاد، والمتمثّلة بارتفاع أعداد الاصابات بوباء كورونا، لجهة استنفاد قدرة الطاقم الطبي ووصول المستشفيات الى قدراتها الاستيعابية القصوى، لكن في الشق الاقتصادي يُعدّ إقفال البلاد كلياً للمرة الثالثة في اقل من سنة، الى جانب وابِل الأزمات التي تعانيها البلاد، حملاً ثقيلاً جداً على اللبنانيين، فهل يمكن تقدير حجم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الاقفال بسبب كورونا؟ وكيف سيكون مشهد البلد بعدها؟

منذ أكثر من سنة يلتزم اللبنانيون منازلهم نتيجة جائحة كورونا، بحيث انّ وجهة الخروج من المنزل باتت تقتصر على السوبرماركت، الفرن، اللحّام، وربما مكاتب العمل (لأنّ غالبية المؤسسات حوّلت العمل الى الاونلاين) وأزيلت وجهات عدة من اولوية المواطن امّا التزاماً بالحجر، أو لأنّ الراتب ما عاد يسمح بذلك، أو بعد فقدان مورد الرزق. لكن فور انتهاء كورونا وبدء خروج المواطنين من حجرهم هناك أمور كثيرة ستتغير في نمط حياتهم، فكيف سيكون المشهد بعد حين؟

 

يقول مدير مؤسسة البحوث والاستشارات الخبير الاقتصادي د. كمال حمدان من الصعب اليوم تقدير الخسائر الناجمة عن الاقفال بسبب كورونا، لافتاً الى انه في الأيام العادية قبل الأزمة المالية وقبل الأزمة الصحية كان يقدّر الناتج المحلي اليومي بحدود 150 مليون دولار. امّا اليوم، وفي ظل مجموعة الأزمات التي نعانيها، فإنه من الصعب تقدير الخسائر خصوصاً انّ عدداً كبيراً من الشركات تَكيّفَ مع واقع كورونا، بحيث انتقل مركز العمل الى البيوت مع متابعة إدارية من خلال اجتماعات يومية عبر «زوم» او غيرها. لذا، هناك تفاوت في حركة العمل داخل كل مؤسسة، منها من لا يزال قائماً ويعمل بشكل طبيعي عبر «الاونلاين»، مثل بعض المؤسسات والشركات الخاصة والمدارس، ومنها من يعمل إنما بأقل من طاقته التشغيلية بسبب المداورة في دوامات العمل، مثلما يحصل في مؤسسات الدولة والمصارف وشركات التأمين والدوائر العقارية... لذا، يصعب تقدير حجم الخسائر، التي قد تتراوح ما بين 30 الى 50%، إنما لا شك انّ التوصّل الى أرقام حقيقية للخسائر يتطلّب دراسة لكل قطاع عن أثر الاغلاق على الناتج من نشاط عملهم. من دون ان ننسى انّ الاقفال والتعطيل أثّر بنِسَب أكبر في كل من المراكز التجارية والقطاعات السياحية، مثل المطاعم والملاهي الليلية والنوادي الرياضية والمسابح، اذ لا يمكن لهؤلاء توصيل خدماتهم عبر شبكات الاونلاين على غرار بقية القطاعات.


 
 

أمّا عن القطاعات التي استفادت من جائحة كورونا وما تبعها من إقفالات، يقول حمدان: انّ البيع بالتجزئة وخدمة الديليفري أنشطة نَمَت بشكل ملحوظ خلال هذه الفترة، لافتاً الى انّ التحوّل الكبير الذي أصاب البلاد من نحو عام الى اليوم بسبب الانهيار الحاصل غَيّرَ من إنفاق الأسَر، فبعدما كان إنفاقها على المأكل ما قبل العام 2019، أي قبل احداث 17 تشرين، بنسبة 20% (استناداً الى إحصاءات المركزي) و30% (بحسب مؤشر مؤسسة البحوث والاستشارات)، تحوّل بعد الانهيار النقدي وارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة 6 مرات وانخفاض مداخيل اللبنانيين ارتفعت حصّة المأكل من إنفاق الأسَر الى ما بين 50 و70% بعد توقّف المستهلك عن الانفاق على أبواب أخرى، مثل السفر والسهر والاحتفالات وشراء الملبوسات... بما يعني تضرّر مدخول كل من يعمل في هذه المجالات مقابل ارتفاع الحركة في قطاعات السوبرماركت وكل ما له علاقة بتصنيع السلع الغذائية والاستهلاك السريع حاجة الحياة اليومية. وأوضح حمدان انّ هذه القطاعات ربما كانت خسائرها اقل من غيرها نسبة الى القطاعات الأكثر تضرراً.

 

لبنان ما بعد كورونا

أمّا عن تصوّره لمرحلة ما بعد كورونا، فيقول حمدان: لا نعرف اذا كان سيبقى لدينا بلد حينها، خصوصاً مع استمرار الطبقة الحاكمة في تخريب البلد.

 

أضاف: يفيد تقرير البنك الدولي الأخير تراجع الناتج المحلي ما بين 20 الى 25% عام 2020، بما يعني انّ هناك مئات المؤسسات أقفلت، وانّ هناك عشرات آلاف الموظفين خسروا أعمالهم في مقابل تخرّج نحو 50 ألفاً من الطلاب سنوياً من الجامعات والمعاهد الفنية والتقنية ليبحثوا بدورهم عن فرَص عمل. لتصبح الصورة كالآتي: انّ معدل البطالة تضاعَف في صفوف من كان يعمل يُضاف إليهم نحو 50 الفاً يحاولون دخول سوق العمل سنوياً، في حين انّ فرص العمل معدومة. وفي النتيجة، ستكون الهجرة مطروحة عند البعض كأحد الحلول، والأخطر انها ستكون مُتاحة أكثر لأصحاب الاختصاص والكفاءة والخبرة وأصحاب الشهادات الجامعية التي سيفرغ البلد منها.

 

ورداً على سؤال، يقول حمدان: هناك وجهتان للبلد بعد كورونا، إمّا ازدياد سرعة انهيار الوطن نحو القعر الذي لم نصل اليه بعد، صحيح نحن في حالة انهيار إنما لا نزال في العلالي لأننا لا زلنا ندخل الى السوبرماركت ونَجد ما نشتريه عن الرفوف، ولا نزال قادرين على دفع الفواتير وشراء الدواء، وبالتالي لم تستنفد بعد تَبِعات الانهيار الاقتصادي، لكن يكفي ان يرفع المركزي الدعم او يعدّل في تغطيته للسلع حتى تزيد سرعة الانهيار من سقف ادنى الى ادنى لنصل الى الفقر والجوع والفوضى وازدياد السرقات. ويكفي التذكير انّ أسعار السلع ارتفعت بنسبة 150% في خلال الـ15 شهراً الماضية، في حين انّ رواتب المواطنين بالليرة اللبنانية فقدت من قيمتها.


 
 

أمّا الوجهه الثانية فتتمثّل بعودة انتفاضة الشعب على الطبقة الحاكمة، على ان تفرض بتحرّكها حكومةً من خارج المنظومة الحاكمة بكفاءات عالية وصلاحيات استثنائية، بما فيها صلاحيات تشريعية توقِف العمل بكل القوانين التي لها علاقة بنشاط الحياة الاقتصادية الاجتماعية القائمة الآن، وتسنّ تشريعات طارئة لفترة تتراوح ما بين 6 اشهر او عام ونصف العام تنظّم فيها عملية استيعاب اكبر عملية نهب تعرّض لها الشعب اللبناني، وتفرض إصلاحات على القطاع المصرفي بشِقّيه: مصرف لبنان والمصارف على كبار الموظفين، تُعيد هيكلة الانفاق العام، وترفع السرية المصرفية، وترفع الحصانة الادارية، وتفرض ضريبة استثنائية تصاعدية على الثروة، وتفتح ملفات لنحو 20 الف حساب مصرفي تتعدى قيمة كل واحد منها مليون دولار، لنعرف مَن استفاد تحت مظلّة القانون عن غير وَجه حّقّ تجاه الملايين الذين خسروا جَنى عمرهم.

 

وختم: وحدها حكومة مستقلة عن المنظومة الحاكمة يمكنها ان تغيّر المعادلة شرط ان تضع خطة شاملة وتسنّ تشريعات، حتى لو كانت موجعة، لأننا نتحدث عن خسائر تفوق الـ 100 مليار دولار، مع التأكيد انّ الخروج من هذا النفق لا يتم بسنة او اثنتين، لكنّ السير وفق السراط المستقيم يعطي أملاً للناس للصمود.