تبدو الدولة بكل منظومتها حائرة وعاجزة عن تجاوز مشكلة الدعم، الذي تتراوح الاقتراحات في شأنه بين الرفع أو الترشيد. وتذهب الاقتراحات في شأن تمويل ما تبقّى من دعم، بين استمرار الانفاق من الاحتياطي الالزامي، أو طباعة المزيد من العملة، أو هدر احتياطي الذهب بوسائل متنوعة تتراوح بين الرهن أو التأجير أو البيع...

إنطلقت ورش العمل للبحث في كيفية ترشيد الدعم بعد ان نفد احتياطي مصرف لبنان الذي كان يستخدمه لمواصلة مختلف أشكال الدعم، ولم يبق منه سوى 650 مليون دولار يمكن ان تستخدم لفترة شهرين اضافيين في حال خُفّضت كلفة الدعم الى النصف. لكنّ السعي لترشيد الدعم، والذي بدأت به الحكومة متأخرة حوالى العام، لن يؤدي الى النتيجة المرجوّة بسبب عدم توفّر السيولة المطلوبة لتمويل أي دعم، حتّى لو تمّ خفض كلفته ورفع الدعم عن نسبة معيّنة من الادوية او جزء من القمح وبعض السلع الغذائية أو المحروقات. وبالتالي، ليس امام الحكومة سوى اللجوء الى أحد الخيارات المتاحة كون الدعم المالي الخارجي بات على الارجح أمراً مستبعداً في المستقبل القريب في ظلّ تقاعس السلطلة عن تلبية شروط المجتمع الدولي واستئناف الاصلاحات.

 

وبما انّ الحديث اليوم عن وضع آلية لحماية الطبقة الفقيرة والأسَر الاكثر حاجة، من خلال توفير بطاقات تموينية او مبالغ نقدية شهرية في حال رفع الدعم بشكل كامل، فإنّ كلفة تمويل الدعم المباشر لأكثر من 60 في المئة من اللبنانيين الذين باتوا تحت خط الفقر، لن يغطيها برنامج البنك الدولي الذي اقترح تقديم قرض لبناء شبكة أمان اجتماعي، ما سيضطر الدولة الى تمويل تلك الكلفة عبر طباعة المزيد من العملة المحلية، وبالتالي زيادة نسبة التضخم وتراجع إضافي في القدرة الشرائية للمواطن، وانهيار إضافي في سعر صرف الليرة، لتنتفي معها أهداف الدعم المباشر وتعود الامور الى نقطة الصفر.


 
 

أسوأ ثاني الخيارات المتاحة، في حال تم التوافق على ترشيد الدعم وخفض كلفته الى النصف، انّ التمويل المطلوب لمواصلة الدعم، ولو كان مُرشّداً، لن يكون متوفراً إلا إذا تمّ استخدام الاحتياطي الالزامي للمصارف المقدّر بحوالى 17 مليار دولار، وهي آخر ما تبقّى من اموال المودعين قد يتمّ اسنتزافها على غرار احتياطي مصرف لبنان من العملات الاجنبية لغايات استهلاكية، ما سيقضي على فرص اعادة النهوض بالقطاع المصرفي ويصعّب مهمة إنقاذه ويؤثر سلباً وبنسبة كبيرة على عملية توزيع الخسائر بنسَب معقولة.

 

امّا الاحتمال الأسوأ فهو استثمار احتياطي الذهب المقدّر بـ17 مليار دولار لتمويل كلفة الدعم عبر بيعه او رهنه، وهو الاجراء الاكثر مجازفة في وضع لبنان الحالي، وفقاً للمستشارة في الشؤون المالية مارغريتا شامي، التي أوضحت لـ»الجمهورية» انه توجد أشكال مختلفة لإقراض الذهب ورهنه او تأجيره، مثل مقايضته أو إيداع جزء منه مقابل الحصول على مبلغ مالي معيّن، «لكنّ المخاطر كبيرة». وشرحت انّ مقايضة الذهب يمكن ان تتم من خلال عقد اتفاقيات لإعادة شرائه مقابل الحصول على تمويل او قرض مضمون، حيث يحصل مصرف لبنان بموجب تلك المقايضة على التمويل المطلوب ويتحمّل مسؤولية إعادة شراء الذهب بسعر ثابت وتاريخ محدد، لافتة الى انّ مخاطر هذا الخيار تكمن في سوء الإدارة والتخلف عن السداد، لأنّ مصرف لبنان سيستخدم تلك السيولة بالعملات الاجنبية على مواصلة الدعم او تثبيت سعر الصرف، على سبيل المثال، ولن يوظّفها من اجل الحصول على مردود مالي بالعملة الاجنبية يمكّنه من إعادة شراء الذهب، ما قد يصبح فعلياً بمثابة بيع الذهب.

 

وشرحت انه في خلال عملية المقايضة «financing repurchase agreement and collateralized loan»، يتحمّل مصرف لبنان مخاطر التعرّض لتقلبات سعر الذهب في الاسواق الناشئة، اي انه على سبيل المثال، في حال قايضَ مليون أونصة مقابل سيولة بقيمة 400 مليون دولار وارتفعت اسعار الذهب عند موعد تسديد الاستحقاق، فإنّ مصرف لبنان مُلزَم تسديد الـ400 مليون دولار بالاضافة الى الفوائد المترتبة عليه.

 

اما بالنسبة لإيداع جزء من سبائك الذهب لدى أحد البنوك العالمية، والذي سيستخدمه لغرض التداول في أسواق الذهب العالمية مقابل مردود إيجار «GLR»، فأوضحت الشامي انّ تأجير ذهب لبنان يمكن ان يؤمّن مردوداً بحوالى 160 مليون دولار سنوياً في حال تم احتسابGLR 1 %، محذّرة من انّ عدم إنفاق هذا المردود بحكمة لتوليد الإيرادات بالدولار أو لإنعاش الاقتصاد، بل فقط لتغطية الخسائر السابقة من دون وجود خطة إصلاح واستراتيجية شاملة، فإنّ ذلك سيؤدي الى تعميق الأزمة وتدهور الثقة بالاقتصاد اللبناني.


 
 

في المقابل، اوضحت الشامي انّ التصرّف باحتياطي الذهب وتأجيره سيؤدي الى عدم احتسابه كأصول احتياطية للدولة عند التوصّل الى برنامج إنقاذ مع المؤسسات الدولية ووضع خطة لتحديد حجم الخسائر وتوزيعها، كما انّ المَسّ بالذهب سيسحب الثقة من الاسواق المالية العالمية، ويؤثر على قدرة لبنان في الولوج الى تلك الاسواق لاحقاً.