أبدأ مقال اليوم بصلاة على أرواح الشهداء الذين سقطوا في الانفجار الكارثة الذي هزّ بيروت، هذه الدماء التي سالت لا تعوّض والآلام التي خلّفتها ستبقى محفورة في ذاكرتنا الوطنية، وستبقى تطارد مسؤولين دمّروا وطناً بفسادهم حتى يوم الدين.

 

انّ ما انفجر في مرفأ بيروت ليس مادة النيترات، بل ما انفجر هو الفساد الذي تراكم على مدى عقود ودمّر الاقتصاد وتنافسية البلد وانتاجيته، وهجّر شبابه الى اصقاع الارض، ويأتي اليوم ليتجّسد بأبشع صورة ليسبّب الويلات ويخطف الارواح.

 

كنت مؤمناً انّ غياب الشفافية في الوطن تدمّر الاقتصاد وتهدر المال العام وتسمح بالسرقات، ولكنني ذُهلت بعد كارثة بيروت، انّ غياب الشفافية يستطيع ان يهدّد الارواح والامن القومي وسلامة الافراد، ويهدّد كل فرد من المجتمع.

 

لو تأمّنت الشفافية لكنا تجنبنا الكارثة، لكنا عرفنا بالمفاوضات الجارية لإدخال الباخرة الى لبنان ومنع سفرها في العام 2013، وانزال الحمولة المميتة الى مرفأ بيروت، لو تأمّنت الشفافية لكان الشعب رفض ادخال هذه الحمولة الى بلده وتفريغها على ارض المرفأ في العام 2014، لأنّ خطورة هذه المواد معروفة عالمياً وتسببت بكوارث عدة حول العالم، لكنا عرفنا بوجود الحمولة في المرفأ، ولأصبحت فضيحة بكل المعايير. والسؤال المطروح اليوم، الم يُدرك المسؤولون الكبار، كما المسؤولون مباشرة عن المرفأ، خطورة هذه المواد؟ اذا كانوا يعرفون فهم مجرمون، وان كانوا لا يعرفون فوجودهم في سدّة المسؤولية في قطاع اساسي مثل مرفأ بيروت هو جريمة، ومن قام بتعيينهم في هذه المسؤولية هو مجرم.

 

لو تأمّنت الشفافية لعرفنا بالتفاصيل ماذا يُخزّن في مرفأ بيروت بالإجمال، ولكنا اطلعنا على كل المراسلات منذ العام 2014 وحتى الآن، وعلى مراسلات شركة بارودي لمدير عام النقل، الذي حذّره من انفجارات مماثلة حول العالم. لو تأمّنت الشفافية لما كنا ننتظر بحرقة اجوبة عن اسئلة بديهية حول الصلاحيات ومن المسؤول.

 

قبل الانفجار، كانت الشفافية الوسيلة الوحيدة للإصلاح ومكافحة الفساد، وهو ما نطالب به مع كل اشراقة شمس جديدة. اما بعد الانفجار، اصبحت الشفافية خشبة الخلاص وشبكة الامان الوحيدة، بعد ان تحطمت الثقة تماماً بأي سلطة او مسؤولين.

 

حتى الرئيس الفرنسي ماكرون في زيارته قالها في وضوح، لن نسلّم اي مساعدات للحكومة، في اقوى اشارة الى سقوط الثقة نهائياً بأي حكم أو سلطة في لبنان. وبعد هذه الفضيحة، كيف سنستعيد الثقة؟

 

لن نستعيدها من دون شفافية مطلقة وبيانات مفتوحة، ان تصبح كل حساباتنا واعمالنا وقراراتنا على الانترنت، ليتسنى لأي كان الاطلاع عليها. العمل في الظلمة انتهى الى غير رجعة. اخفاء الحقائق عن اللبنانيين انتهى الى غير رجعة.

 

يجب ان تكون الدماء الغالية التي سقطت، الصخرة التي سنبني عليها نظاماً جديداً مبنياً على الشفافية المطلقة، وتغيير الإجراءات الادارية البيروقراطية التي خنقت هذا البلد خنقاً على مدى سنين وصولاً الى تفجيره حرفياً.

 

وفي هذا السياق، نطلب من قيادة الجيش، المسؤولة عن المساعدات، ان تبدأ بالتأسيس لهذه العقلية وتقدّم نموذجاً فريداً عبر تخصيص صفحة على الانترنت لجرد كل المساعدات ووجهة استعمالها.

 

لن أنهي مقالي من دون فسحة أمل، ما تعرّضنا له كارثي، الاّ انّ النهوض منه ليس مستحيلاً، واعادة بناء لبنان على اسس جديدة هو واجبنا الوطني في المرحلة المقبلة، مرحلة شعارها الشفافية المطلقة، وعدّة عملها نظام تنافسي متطور.

 

الرحمة للشهداء والمواساة للمصابين والمتضررين. أعطونا الشفافية وسنعيد بناء ما تدمّر وننهض باقتصاد لبنان.