يشكّل تاريخ 25 أيار 2000 محطّة فاصلة في مسيرة "حزب الله". قبله بعشرين عاماً كانت البدايات وبعده بعشرين عاماً لا يزال "الحزب" يبحث عن بدايات. كأنّه يسير في طريق من الصراعات لا نهاية له. لا تهمّه الخسائر والحسابات بقدر ما يهمّه أن يكون حيث هو وحيث يعتبر أنه يجب أن يكون.

 

 
 

 

 

لا يمكن الحديث عن حالة "حزب الله" من دون ربطه بالثورة الإسلامية في إيران. هو ابن هذه الثورة وعقيدة ولاية الفقيه. وهو في الوقت نفسه أسير هذه الثورة وهذه العقيدة. لا يستطيع الخروج منها ولا وجود له من دونها ولا دور ولا قوة ولا هوية. صحيح أن ولادته كانت في لبنان ولكنّ الرحم الذي تكوّن فيه كان في إيران. وصحيح أن وجوده في لبنان وعناصره وقادته من لبنان ولكن هَديَه يأتي من إيران وقراره مرتبط بالمرشد السيد علي الخامنئي كما كان قبله مرتبطاً بالإمام الخميني.

بين الخميني وموسى الصدر

يشبه "حزب الله" نفسه. لا يطمح بأن تكون له صورة أخرى ولذلك لا يهمّه أن يُنتقَد في مرجعيته وولائه، طالما أن أمينه العام السيّد حسن نصرالله لا يجد حرجاً في الإعلان عن افتخاره بكونه جندياً في ولاية الفقيه، وبأنّه لا بدّ سيقاتل في كل مكان يدخل ضمن تحقيق هدف ولاية الفقيه.

لا شكّ في أن الحالة الإسلامية الشيعية التي مثّلها "حزب الله" كانت موجودة في أكثر من موقع وشخصية دينية أو مرجعية، ولكنّها كانت حالة مختبئة ومتفرقة ولا تعبّر عن نفسها كحالة. كانت الولادة تنتظر الساعة الصفر في إيران. ولم تكن تلك الحالة بعيدة عما يحصل في امبراطورية الشاه محمد رضا بهلوي، ذلك أن بذور الثورة الإسلامية كانت تزرع وتولد في لبنان أيضاً حيث كان الكثير من قياداتها.

قبل أن يكون الخميني رجل الدين الشيعي القوي في إيران ثم في المنفى الباريسي كان هناك رجل دين شيعي قوي في لبنان هو الإمام موسى الصدر. هو أيضا عاد إلى لبنان من إيران واستعاد هويّته وأسّس هويّة جديدة للشيعة في لبنان منذ العام 1959، واتُّهم بأن دوره كان ملتبساً وبأنّه ربما كان عميلاً للمخابرات الأميركية أو للسافاك، وبأنّ تدبير عودته إلى البلد الذي تعود إليه هوية أجداده كان مريباً. إستطاع موسى الصدر خلال أقلّ من عشرة أعوام أن يعطي للشيعة في لبنان هويّة لا تخرج عن دائرة الهويّة اللبنانية، وأن يؤسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وكان أول هيئة دينية مستقلّة للشيعة في العالم العربي والإسلامي. ومن المفارقة أن يتمّ تغييب الإمام الصدر في 31 آب 1978 بالتزامن مع بداية انهيار عصر الشاه في إيران واطلاق عصر الثورة الإسلامية وبالتالي التأسيس لولادة "حزب الله".

لو لم يُخفَ الإمام الصدر لما استطاع "حزب الله" أن يولد في لبنان. تلك ثابتة لأنّه في ظل هالة كهالة موسى الصدر لم يكن بإمكان أي هالة دينية شيعية أخرى أن تولد ويكون لها موقع ودور وفعل وقيادة وريادة. لذلك وعلى رغم مرور نحو 42 عاماً على تغييب الإمام الصدر لا يزال هناك تشكيك بدور إيراني ما في هذه العملية، وإن لم يكن بالتواطؤ فبغض النظر عن كشف مصير الإمام، خصوصاً أن علاقة جيّدة ربطت بين قيادة الثورة الوليدة في طهران وقيادة الثورة التي أخفت الإمام في ليبيا، وربما تمّ التعبير عن هذه الهواجس خلال المسيرات الحاشدة التي سيّرتها "حركة أمل" والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى دمشق، حيث كانت تعقد قمة الصمود والتصدي في العام نفسه للمطالبة بكشف مصير الإمام من دون أن تلقى استقبالاً أو جواباً.

 

 

الإمام موسى الصدر



"حزب الله" بديلاً من "أمل"!

بعد عودة الخميني إلى طهران وتسلّم السلطة وتأسيس نواة الجمهورية الإسلامية بدأت محاولة تصدير الثورة إلى لبنان من خلال إرسال دعوات إلى قيادة "حركة أمل"، على أساس أن تتحوّل إلى التنظيم الذي يمكن أن يكون أداة بيد الثورة، وعندما لم يتمّ الأمر بدأ العمل على التنظيم البديل. في تلك المرحلة كان الرئيس حسين الحسيني قد تولّى قيادة "الحركة" بعد غياب الإمام ثم تنازل ليحلّ محلّه الرئيس نبيه بري الذي لا يزال حتى اليوم في موقعه الحركي.

في تلك المرحلة كان السيد حسن نصرالله لا يزال عنصراً في "حركة أمل" بعمر 18 عاماً قبل أن يتولى مسؤوليات تنظيمية. عندما لم تحصل عملية الإنتقال بدأ العمل على اختراق "الحركة" واستتباع عدد من المسؤولين فيها بعد تبديل ولاءاتهم. هذا الأمر بدأ قبل العام 1982 التاريخ الذي يعتبره كثيرون أنه بداية دخول الحرس الثوري إلى لبنان عبر سوريا والبقاع بعد بدء الإجتياح الإسرائيلي. هذا التاريخ مفصلي لأنه أسّس لبداية مرحلة بناء الجسم العسكري والأمني والديني والسياسي الذي صار يعرف لاحقا باسم "حزب الله".

حتى العام 1985 كان "الحزب" يعمل تحت أسماء مختلفة ويعتمد السريّة الكاملة. وقد شهدت تلك المرحلة الممتدة حتى العام 1990 عمليات خطف الرهائن الأجانب والطائرات وتفجير مقرات المارينز والمظليين الفرنسيين والسفارتين الأميركيتين في عين المريسة ثم في عوكر. كان "حزب الله" قد ورث بعض الشبكات التي كانت تعمل ضمن أطر التنظيمات الفلسطينية بعد خروج ياسر عرفات من لبنان، وكان عماد مغنية صلة الوصل بين ما كان من "حركة فتح" وما سيكون من "حزب الله".

هذه المرحلة لم تشهد قيام قيادة لـ"الحزب". كانت قيادته أمنية وسرية ويظهر على الضوء عدد من رجال الدين الذين يعبّرون عن هذه الحالة. وبينما كانت "حركة أمل" تغرق في حرب المخيمات ومعارك الزورايب في بيروت كان "الحزب" يبني قدراته العسكرية وخلاياه لينقضّ لاحقاً على "الحركة" في معارك أقليم التفاح والجنوب والضاحية الجنوبية. كانت تلك المرحلة الأصعب التي مرّ بها "الحزب". كان يمكن أن ينهزم وأن تسيطر "الحركة" على الحالة الشيعية ولكنه بفعل عوامل عديدة تنظيمية وأمنية، استطاع أن يجتاز تلك المرحلة ليكون لاحقًا القوة العسكرية الأولى. انتهت الحرب بينه وبين "أمل" في العام 1990 عندما تم التوصل إلى ما سمّي اتفاق دمشق برعاية سورية إيرانية مباشرة. كان الإتفاق أساساً بين سوريا وإيران وقد أعطى الدور العسكري والأمني لـ"الحزب" بينما كان على "حركة أمل" أن تتنحى وأن يكون دورها ضمن مؤسسات الدولة الرسمية.
 

 

من الطفيلي إلى نصرالله

نتيجة هذه التسوية كان صار ممكناً أن يتمّ الإعلان عن أن مجلس شورى "الحزب" اختار الشيخ صبحي الطفيلي أميناً عاماً له ليكون الأمين العام الأول. ولكنّ هذا الأمر لم يدم بحيث أنه تم اختيار السيد عباس الموسوي خلفاً له قبل أن تغتاله إسرائيل في غارة جوية استهدفت موكبه في شباط 1992. هذا الحدث الذي كان يمكن أن يكسر ظهر حزب الله أدى إلى نتيجة معاكسة بعد اختيار السيد حسن نصرالله خلفاً له وهو كان لا يزال في الثانية والثلاثين من عمره وقد كان لعب دوراً أمنياً وعسكرياً بارزاً أهّله لتولّي هذه المسؤولية.

مستفيداً من الدور السوري في لبنان ومن التحالف بين نظامي دمشق وطهران احتكر الحزب "المقاومة" بعد قرار استبعاد باقي التنظيمات التي كانت تشارك في العمليات في الجنوب. كلّ هذا العمل المتراكم منذ العام 1992 أدى إلى 25 أيار 2000 التاريخ المفصلي في تاريخ "الحزب" الذي سيجر تواريخ أخرى لا تقلّ أهمية عنه.

في الواقع العسكري والسياسي كان حدث الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب قراراً إسرائيلياً بالدرجة الأولى اتّخذه رئيس الوزراء أيهود باراك، وكان نتيجة طبيعية لسلسلة الإنسحابات التي تلت على مراحل اجتياح 1982. وقد استفاد "حزب الله" من هذا الحدث ليجعله عنوان انتصار له، بعد سلسلة حروب صغيرة متفرقة وعمليات أمنية سجّل فيها نقاطًا ضد إسرائيل.

 

 

 

قبل 20 عاماً


وقف النار بعد الحرب

ربما كان من المقدّر أن يكون 25 أيار 2000 خاتمة المواجهات الكبرى في الجنوب ولكنّ إقدام "حزب الله" على تنفيذ عملية 12 تموز 2006 فجّر حرباً طويلة امتدت شهراً، انتهت بالقرار 1701 الذي نص بوضوح على وقف إطلاق النار وعلى بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، وأكد على القرار 1559 الذي نصّ على نزع سلاح "حزب الله". أهميّة هذه الحرب أن "حزب الله" خاضها في لبنان بعدما كان تمّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 ووُجِّهت التهمة إليه، وبعدما كان انسحب الجيش السوري من لبنان. وأهميّتها أيضاً أنها جعلت "حزب الله" يلتزم بوقف النار وكانت بالفعل بمثابة نهاية الحروب الكبرى بين "الحزب" وإسرائيل، الأمر الذي كان من الواجب حصوله بعد 25 أيار 2000.

مطحنة الحرب السورية

إعتباراً من 15 آذار 2011 تاريخ بدء الأحداث في سوريا وجد "حزب الله" نفسه أمام حرب جديدة لم يكن ينتظرها. من مهمّة "تحرير" لبنان كان عليه أن ينتقل إلى مهمّة "تحرير" سوريا. لا شكّ في أنّها مرحلة جديدة من مسيرة "الحزب" السياسية والعسكرية والأمنية تكبّد فيها ولا يزال الخسائر الكبيرة. معظم كوادره الذين برزوا في المواجهات مع إسرائيل سقطوا ضحايا حروبه في سوريا. منذ العام 2006 يستمرّ الهدوء على الخط الأزرق في الجنوب بينما منذ تسعة أعوام يستمرّ "حزب الله" بإرسال مقاتليه إلى سوريا، ويستمرّ تدخلّه في العراق واليمن وصولاً إلى فنزويلا.

لا شكّ في أن المواجهات التي يخوضها "الحزب" على الأرض لا تقلّ أهمية عن المواجهة التي يخوضها ضد العقوبات الأميركية المفروضة عليه وعلى النظامين الإيراني والسوري. وهو كما كان في ولادته تنظيماً أمنياً وعسكرياً يتبع ولاية الفقيه ويؤمن أن لبنان ليس إلّا جزءاً من الأمة الإسلامية التي يرأسها الوليّ الفقيه في إيران، سيبقى كذلك لن يلقي سلاحه طوعاً ولن يتخلّى عن عقيدته وولائه طوعاً. لم تنته مهمّته ولم تنتهِ الحروب التي يخوضها ويدفع لبنان ثمنها. ولا قيامة حقيقية للبنان طالما أن "الحزب" يفرض قراراته عليه بقوة سلاحه وتبعية أطراف كثيرة له. ولا يبدأ إنقاذ لبنان إلا من تحرير نفسه من هذه الوصاية. تلك هي حرب التحرير الحقيقية المطلوبة.

 

 

نجم الهاشم

 

نداء الوطن