في تقرير نشرته مجلة "ذا نيو ريببلك" الأميركية، قال الكاتبان ديفيد أدلر ودانيال بيسنر إنه بعد يومين من اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني بطائرة مسيّرة أميركية خارج مطار بغداد الدولي، وافق البرلمان العراقي على قرار غير ملزم بطرد الجيش الأميركي من بلاده.
 
من جهتها، رفضت وزارة الخارجية الأميركية قبول قرار البرلمان، وهدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات على العراق بسبب هذا القرار، قائلا "لدينا قاعدة جوية باهظة الثمن للغاية هناك، كلفنا بناؤها مليارات الدولارات، لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا مقابل ذلك".
 
لضمان استمرار تقبل العراق الوجود الأميركي؛ لجأت وزارة الخارجية إلى قوة الدولار الأميركي، الذي تسيطر من خلاله بشكل كبير على إمدادات وتوزيع الدولار بصفته العملة الاحتياطية العالمية، وهددت بمنع العراق من الولوج إلى حسابه في الاحتياطي الفدرالي.
 
وهو أمر من شأنه أن يشل بشكل فعال قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية، ويعتقد أحد المسؤولين في بغداد أنه في مواجهة هذا التهديد الذي سيتسبب في انهيار العراق، تراجع العراقيون عن دعوتهم لإجلاء القوات الأميركية، ويبدو أن الجيش الأميركي سيبقى في البلاد إلى أجل غير مسمى.
 
 
سيادة الدولار
وأوضح الكاتبان أن إنهاء "الحروب التي لا تنتهي" أصبح أمرا شائعا داخل الحزب الديمقراطي، ومن النشطاء في الشارع، إلى المرشحين للرئاسة في مرحلة النقاش، وظهر إجماع جديد على أنه يجب على الأمة أن تقلص ميزانيتها العسكرية، وأن تكبح قدرة السلطة التنفيذية على إشعال صراعات أجنبية لا يمكن الفوز بها.
 
ولكن مع تركيزه الشديد على الحد من الميزانية العسكرية، فإن الجدل الدائر حول الحرب التي لا نهاية لها يغفل إلى حد كبير الهيكل المالي للإمبراطورية الأميركية. كما توضح حالة العراق، فإن الدولار يمثل الركيزة الأساسية للهيمنة العسكرية للولايات المتحدة، حيث يشجع على توسعها في جميع أنحاء العالم، ويساعد في ذلك.
 
ولكبح نزعة المغامرة الإمبريالية الأميركية، وقدرة الرئيس الشخصية على الانخراط فيها من جانب واحد؛ فإنه ليس من الضروري التقليل من الوجود العسكري العالمي الضخم للولايات المتحدة فحسب، بل التخفيف أيضا من الأهمية المركزية للدولار أمام التجارة والتمويل الدوليين.
 
ودأبت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على الاستفادة من قوتها الاقتصادية للمضي قدما في جدول أعمال سياستها الخارجية، وفي أوائل القرن العشرين استبدلت "دبلوماسية الدولار" التي فرضتها الولايات المتحدة سيادة أميركا اللاتينية برأس المال الأميركي، والسيطرة على مصلحة الجمارك المحلية.
 
ووفقا لويليام هوارد تافت -الذي بدأ تطبيق دبلوماسية الدولار- فإن هذا الاستبدال سيعزز المصالح الأميركية، ويقلل الصراع العنيف في جميع أنحاء العالم.
 
وأضاف الكاتبان أن تفوّق الدولار ساعد في الحفاظ على المغامرات الإمبريالية الأميركية، في حين نُشر الجيش في الأغلب لحماية سيادة الدولار.
 
وعندما هدد الحزب الليبرالي المستقل في نيكاراغوا السيطرة الأميركية على اقتصاد ذلك البلد، أرسل تافت 2500 من جنود البحرية لضمان استمرار البنوك الأميركية في خدمة ديون نيكاراغوا.
 
وفي العقود التي تلت ذلك، نمت الروابط بين الدولارات والإمبريالية بشدة، وحسب المؤرخ ستيوارت شريدر، فإن "إمبراطورية القواعد" التي شيدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية "موجودة لحماية امتياز الدولار الباهظ".
اعلان
 
في أكتوبر/تشرين الأول 2000، قرر صدام حسين تحويل عملة مبادلات النفط العراقية من الدولار، الذي أطلق عليه عملة "الدولة العدو"، إلى اليورو.
 
لكن الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أعاد صناعة النفط في البلاد بأمان إلى فئة الدولار، وبعد فترة وجيزة من الغزو أحدث صانعو القرار الأميركيون حسابا للبنك المركزي العراقي في الاحتياطي الفدرالي الأميركي، وهو الحساب نفسه الذي يهدد ترامب حاليا بتجميده.
 
 
محاولات لتحدي الدولار
أما عن علاقة الولايات المتحدة بإيران، فيطغى عليها التوتر النقدي؛ ففي عام 2007، دعا الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد منظمة أوبك إلى اتباع عملة جيدة ونزيهة تعوض دور الدولار الأميركي، وأنشأ بورصة النفط الإيرانية للسماح بتبادل الموارد في فئات غير الدولارية. وبهذه الطريقة، تحدّت إيران الدولار الذي يمثل مصدرا رئيسيا للقوة الأميركية.
 
على المدى القريب، لا يزال بإمكان الولايات المتحدة نشر قوتها الدولارية لتخويف أعدائها وحلفائها على حد سواء؛ فعلى سبيل المثال، وافق معظم القادة الأجانب على قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران وفرض عقوبات جديدة على الاقتصاد الإيراني.
 
وحتى الدول المتعاطفة مع إيران ولها عملة قوية، اضطرت إلى مسايرة سياسات ترامب خوفا من فقدان إمكانية الوصول إلى الدولار الأميركي. 
 
ولقد ولّد الاستخدام العنيف لقوة الدولار ردة فعل ملحوظة، تعمل روسيا والصين حاليا على تنويع احتياطاتها من العملة، وتوسيع التجارة الثنائية بعملات غير الدولار.
 
ولا يعد خصوم الولايات المتحدة الوحيدين الذين يدفعون نحو التخلي عن اعتماد الدولار، إذ إن بعض زعماء الاتحاد الأوروبي بدؤوا ينزعجون من حقيقة أن الدولار يحد من نطاق حرية أعمالهم.
 
 
التعددية النقدية
إذا دخل البيت الأبيض رئيس تقدمي عام 2021 يشكك في الإمبريالية الأميركية، فإنه سيكون في مواجهة معضلة حقيقية: هل يجب عليه استخدام قوة الدولار الأميركي لتحقيق أهداف مثل كبح التمويل غير المشروع وإنهاء التهرب الضريبي، أو التخلي عن قوة الدولار في سبيل إضعاف الإمبراطورية الأميركية؟
 
الإجابة هي أنه ينبغي القيام بالأمرين معا؛ فمن ناحية، ينبغي على الحكومة التقدمية أن تنشر قوة الدولار الحالية للقضاء على نظام التمويل غير المشروع. ومن ناحية أخرى، يجب على هذه الحكومة أن تقود في وقت واحد مرحلة الانتقال نحو نظام نقدي دولي أكثر عدلا.
 
في الحقيقة، وحدها التعددية النقدية قادرة على منع الولايات المتحدة من متابعة خططها العالمية المدمرة.
 
وفي الختام، نوه الكاتبان بأنه من المحتمل أن يتراجع المدافعون عما يسمى "النظام العالمي الليبرالي" عند تقهقر سيادة الدولار، رغم أنهم يشعرون بالقلق من أن ضبط النفس العسكري الأميركي قد ينذر بنهاية السلام الأميركي، الذي لم يكن في الواقع سلما، ولكن التنوع النقدي -مثل ضبط النفس العسكري- هو خطوة ضرورية نحو عالم يسوده السلام.
 
وفي الأثناء، تثبت إدارة ترامب -التي تسعى لنشر نفوذ الدولار- لجميع المراقبين أن هناك جانبا مظلما للتكامل الاقتصادي، وربما يربط الدولار الولايات المتحدة ببقية العالم، ولكنه يفعل ذلك كوسيلة للهيمنة.