عرّفتنا الثورة في لبنان إلى ملامح كثيرة لم نكن نعرفها أو نألفها. شاهدنا أمام أعيننا مدى الفقر والبؤس والأحزان في بعض المدن والأحياء. بيوت من غرفة واحدة، وعائلات مرضى من دون دواء، وصالات أثاثها فقط البطانيات والأغطية العتيقة. تعرّفنا إلى مشاهد لم تكن موجودة حتى في ذروة الحرب: رجال ونساء يبحثون في أكياس القمامة عن بقايا الطعام. وشبّان يبحثون، مثل فقراء الهند، عن زجاجات البلاستيك الفارغة لبيعها. عرّفتنا الثورة إلى آباء ينتحرون حرقاً لأنهم غير قادرين على تسديد أقساط أبنائهم، وإلى أمّهات جائعات. لكن الثورة كشفت أيضاً عن شعب يدعو إلى الاعتزاز. عن اللبناني الذي نزل إلى الشارع، يكنس الطرقات ويوزّع الوجبات المجّانية ويحترم القانون، وبدل الوقوف متزلّفاً أمام دُور السياسيين، يقف في الساحات رافعاً رأسه مثل أرزة شامخة، والسياسيون مختبئون خلف أكياس السرقة وخنادق الفشل وجدران المكابرة التافهة.

 


وقف اللبناني ليلة بعد ليلة في الساحات. سبعون ليلة. يترك كل شيء ليقف في ساعات العزّ والحقيقة والأخوّة، بينما السياسيون ماضون في تقديم كل ما لديهم من عار: التجاهل وبثّ التفرقة والكذب الفاجر والبحث عن صفقة أخرى، فيما البلد في حالة حصار اقتصادي مرير ووضع نقدي مهتزّ. لم نكن نعرف هذا الجانب الخيري في اللبناني. كنّا نعتقده بعيداً عن العطف والنخوة والتعاضد، لكننا شاهدنا نساء بورجوازيات يحملن وجبات الطعام إلى المعتصمين المباركين، وشاهدنا بعض أجمل سيّدات لبنان يكنسن الساحات ويغسلنها كل صباح. تعرّفنا إلى لبنان الحقيقي الذي لم نكن نعرفه: الفقير حتى العجز، والنبيل حتى الصفوة.

 


توقّفت كاميرا الـ«MTV» أمام حفرة تسكن فيها عائلة من طرابلس. أنا واثق من أن المشهد لم يحرّك رمشة عين في العمى السياسي المتجمّد. كم خُيّل لي أن الشاعر الأندلسي كتب هذا البيت في وصف هذا البيت:
أَلَمْ تعلَمِي أَن الثَواءَ هو التوى..... وأَنَ بيوتَ العاجِزينَ قُبورُ

 


عرضت علينا الشاشات بيوتاً من هذا القبيل، وعرضت علينا مشاهد مآدب، جلس فيها الفقير إلى جانب الغني في ساحة الشهداء، وعرضت علينا بحاراً بشرية متكاتفة، فيما يكرر سمجة السياسيين السؤال عن حقوق الطوائف. السياسيون يبحثون عن حكومة، والناس تبحث عن وطن. غربة كاملة بين رؤيتين وموقفين: فريق يريد أرضاً، وآخر يريد بنكاً. بالدولار!