الكاتب: ياسر عبد العزيز

 

إن كانت ثورات الربيع العربي تمر بأيام عصيبة علت فيها موجة الثورات المضادة المدعومة مخابراتيا وسياسيا من الغرب والكيان الصهيوني الضالع مع الأنظمة العربية في محور الشر للالتفاف على مطالب الشعوب العربية، ومن ضمنها الشعب المصري الذي دفع ثمنا ليس بالقليل في سبيل الدفاع عن ثورته ولا يزال، إلا أنها وفي عالم الثورات لم تنتهي، فالموجات الثورية ظاهرة طبيعية في علم الثورات وتاريخها، لكن الغريب هم أولئك المنظرون الذين يدّعون أن ما حدث ليست ثورات، على الغرم أن ذلك التنظير والتوصيف لم يطرح على مدى ثمان سنوات هي عمر الحراك البشري والتدافع الإنساني في العالم العربي، الذي عاشته تلك الشعوب من غير توصيف ولا تصنيف.

  

يتعلل المنظرون بأن ما شهدته دول الربيع العربي، ومن بينها مصر، لم يكن إلا انتفاضة أو هبة أو حراكا له مطالب اقتصادية ومعيشية سرعان ما انطفأ، ولا يمكن توصيفه أو تصنيفه بأنه ثورة، إذا أن الثورة تحتاج إلى منظرين وفلاسفة يضعون لها وللشارع المنتفض المحددات والأهداف ويرسمون لهم الخطوات والتدرجات وصولا للفكرة التي رسموها نظريا لهذا المجتمع المتغير، ويضربون في ذلك مثالا بالثورة الفرنسية التي مر عليها 230 سنة، وما سبقها من نظريات وفلسفات وضعها موليير وفولتير وروسو على سبيل المثال، وإن تناسى من ينظر على ثورات الربيع العربي والثورة المصرية أن الثورة الفرنسية نفسها مرت بمراحل من النجاحات والإخفاقات، والخيانات والتضحيات حتى وصلت إلى أن تكون، وبحق، من أعظم الثورات التي عرفتها البشرية.

 

وهنا يكمن السؤال: هل تحتاج ثوراتنا ومنها الثورة المصرية إلى فلاسفة وفلسفات ومنظرين ونظريات حتى تنجح كما نجحت الثورة الفرنسية بعد عقود، إن شئنا أن نقول في تغيير واقع فرنسا ودول الجوار بل والعالم كله فيما بعد، كما يطرح بعض المنظرين الآن، وهل بات علينا أن نوقف الحراك حتى يولد بيننا روسو؟      

 

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات شكلت ثورات 1989 جزءًا من موجة ثورية أدت إلى نهاية الحكم الشيوعي في أوروبا الوسطى والشرقية وخارجها. تسمى هذه الفترة أحيانًا بــ (سقوط الأمم) أو (خريف الأمم)، بدأت أحداث الثورة الأولى من سلسلة تلك الثورات في بولندا عام 1989، وامتدت إلى المجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا. واتسمت تلك الثورات باستخدام نظريات المقاومة المدنية، باستثناء رومانيا التي أطاح الثوار فيها بنظامها الشيوعي عبر أدوات العنف. وسقط جدار برلين بالتزامن مع تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور 11 دولة جديدة، بينما استعادت دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا استقلالها في سبتمبر عام 1991. ثم تخلت ألبانيا ويوغوسلافيا عن الشيوعية بعد عام من ذلك.

 

كان انخفاض مستوى المعيشة في كل تلك الدول دافعا قويا للثورة أو الانفصال عن الاتحاد السوفيتي وإزاحة الأنظمة الموالية للفكر الشمولي، لما صاحب تلك الأنظمة من فساد ممزوج بقمع للحريات وانسداد سياسي منع تداول السلطة أو إصلاحها، وهو ما أثر بالنتيجة فيما بعد على الأحزاب الشيوعية للتحول إلى الديمقراطية الاجتماعية أو الاشتراكية الاجتماعية مدفوعة في ذلك بحركة الشارع، قد تكون النظريات الليبرالية والسياسات الديمقراطية في الشطر الغربي من القارة العجوز في خلفية المشهد والمحرك الخفي لتلك الثورات والحركات التغيرية، في اعتقادي، لم يبزغ اسم فيلسوف أو منظر في كل تلك الثورات التي غيرت وجه العالم، لاسيما بعد أن انضمت العديد من تلك الدول التي شهدت ثورات أطاحت بالأنظمة الشمولية إلى حلف (ناتو) لتصبح حليفا للغرب بعد أن كانت عدوا.

 

في مصر نادى الثوار منذ اليوم الأول بشعارات رفعوها مثلت أهدافا للثورة يمكن أن تندرج بشكل أو بآخر ضمن نظريات علمية أو مدارس فكرية سياسية، فــــ (العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية) هي في الحقيقة دليل إرشادي للدولة المأمولة التي يسعى الثوار لإيجادها من رحم التدافع الاجتماع الذي لم يكونوا ليصنفوه، قبل أن يطرح العالم توصيفا لفعلهم المجتمعي بأنه ثورة، وقبل أن يسرقه منهم المنظرون الآن مدفوعين بالإحباط تارة وبكثير من المال تارة أخرى. إن ما دفعه الشعب المصري وباقي الشعوب العربية وعلى رأسها سوريا من ثمن لا يقبل التنظير ولا ينتظر من مجاهدي القاعات المكيفة والمتمترسين خلف شاشات الحاسوب التصنيف.

 

استخدم مفهوم الثورة في مجال العلوم السياسية للإشارة إلى التأثيرات المتبادلة للتغييرات الجذرية والمفاجئة للأوضاع الاجتماعية والسياسية، فهي تلك التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع، والتي تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وأيديولوجية وأهداف الثورة، حتى ولو كان ذلك التغيير بطيء وتدريجي، وفي هذا الإطار، عرف الفيلسوف الألماني جورج وليم هيجل الثورة في كتابه (العقل والثورة) بأنها الثورة على الأوضاع القائمة، وأنها حركة تتسم برفض وإنكار ما هو قائم فعلاً، وأنها إعادة لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني. إذا أنزلنا هذا التعريف على ثوراتنا فإن الحراك الشعبي وشعاراته هي فلسفة بحد ذاتها يبني عليها الشعوب حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والسياسية بعيدا عن المنظرين ومحبي الشهرة، ولا أجدر في ذلك المقام من ذلك النداء الذي نادى صاحبه للإصلاح من خلال أداته الناجعة ... ثوروا تصحوا.