إذا كان الشعب كله متآمرا ومندسا فما على النظام سوى أن يرحل باحثا عن شعب آخر يكون بمنأى عن المتآمرين والمندسين.
 

أمران صار الحديث فيهما يبعث على الضحك، هما المؤامرة التي تقف وراءها قوى ودول أجنبية والمندسون. وإذا ما كان الأمر الثاني مستحدثا فإن الأمر الأول يعود إلى بدايات نشوء الأنظمة الشمولية في عدد من الدول العربية.

لقد كان شبح المؤامرة حاضرا في فكر وسلوك قادة تلك الأنظمة فحولوه إلى واقع من أجل أن يكون مسوغا لفرض شتى صنوف الاستبداد في نواحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية وصولا إلى الحياة الشخصية.

ما من أحد قال كلمة لا تتسق مع ما يفكر فيه النظام الحاكم، إلا وكان متآمرا يستحق أن توقع به العقوبة القصوى وهي القتل. ولأن روح المؤامرة قد تمكنت من ثقافة الشعوب فقد صار شعور المرء بالخوف من أن يكون متآمرا من غير أن يدري، أمرا طبيعيا.

غير أن ذلك الشعور لم يقف حائلا دون أن تفكر الشعوب في مصيرها، الذي كان يُصنع معلبا كما لو أنه بضاعة جاهزة. فكانت الثورات الشعبية الجماعية، التي حاول من خلالها الناشطون الذين غلب عليهم الهاجس الاجتماعي، محاولة لوضع حدّ لنظرية المؤامرة.

وبسبب قوة العصف الشعبي الذي نجح أولئك الناشطون في تأجيجه، اختارت الأنظمة الشمولية في التصدي لهم، أن تضيف إلى نظرية التآمر مدفوع الثمن من قبل قوى خارجية، طابع انخراط مجهولين في تنفيذ إملاءات تلك القوى الخارجية، وهم المندسون.

كان حق التظاهر والاحتجاج مكفولا ديمقراطيا، لولا وجود أولئك المندسين الذين استغلوا ذلك الحق ليفرضوا من خلاله أجندات أجنبية. لسان الأنظمة يقول. وهو أمر لم يجر على نحو معقول. ذلك لأن المندسين ظلوا عبارة عن أشباح ولم تستطع وسائل دعاية تلك الأنظمة أن تعلن عن القبض على مندس واحد، لكي يتم من خلاله التعرف على صورة المندس.

كان المندس عبارة عن شبح، حاولت الأنظمة من خلاله أن تطارد حشود المحتجين، لكي يشعر كل فرد منهم بالخشية من أن يكون مندسا. وهي لعبة سمجة مثلما كانت لعبة المؤامرة التي سبقتها.

لقد كثر عدد المتآمرين والمندسين عبر الزمن، بحيث صار الشعب يتوزع بين فئتين. فإما أن يكون مندسا وإمّا أن يكون متآمرا. لذلك سقط حاجز الخوف القديم. وهو ما ساعد على تطوير تقنيات الاحتجاج الشعبي بحيث صارت الشعوب تحرص على أن تكون حربها ضد الأنظمة سلمية وصار المحتجون يدهشون النظام في حفاظهم على الممتلكات العامة والخاصة.

لقد أسقط المحتجون الشباب نظريات الأنظمة، التي لا تملك وسيلة لتسويغ لجوئها إلى العنف سوى تلك النظريات، التي لم يتم تطويرها وكان الزمن كفيلا في فضح ضعفها وخبث قصدها. هذا ما ينطبق اليوم تماما على النظام الإيراني.

فبعد أن كان ذلك النظام يضع الخطط للتصدي للمتآمرين والمندسين في العراق ولبنان الذين يقفون وراء الاحتجاجات في البلدين ها هو يرى شوارع المدن الإيرانية تغص بهم.

فهل كانت المفاجأة مقصودة من قبل القوى، التي تقف وراء المتآمرين والمندسين، لتذهب بعقل النظام الذي اعتبر نفسه مسؤولا عن حماية نظام الفساد في العراق واستيلاء حزب الله على لبنان؟

ستذهب الوضاعة والغرور بالنظام الإيراني إلى تفسير ما يجري داخل عرينه إلى حد الاستهانة بإنسانية الإيرانيين، الذين صارت سبل الحياة تضيق أمامهم في ظل هيمنته وسياساته، التي دفعت بإيران إلى العزلة والانهيار الاقتصادي.

قد يكون الإيرانيون قد شعروا بأنهم ليسوا أقل شأنا من العراقيين واللبنانيين. لذلك انتفضوا مطالبين بحقهم في حياة حرة كريمة. ذلك ما لا يمكن أن يضعه النظام ضمن جدول اهتماماته.

ولكن صار من الصعب عليه أن يعيد الشعب إلى دائرة الخوف. فإذا كان الشعب كله متآمرا ومندسا فما على النظام سوى أن يرحل باحثا عن شعب يكون بمنأى عن المتآمرين والمندسين.