استطاع ميشال عون أن يغفر للنظام السوري كل مجازره ومذابحه وحتى مصابه الشخصي، وأن يفتتح معه علاقات وتحالفات وتنسيق مستدام. واستطاع أيضًا أن ينقلب على روحية ومندرجات القرار الأممي 1559 الذي ساهم في صناعته وتسويقه، وأن يذهب بعيدًا في تحالفه مع حزب الله، وفي تغطية حالته الهجينة ومشروعه التوسعي، لكنه مستاء فقط من أداء الدولة العثمانية في خريف عمرها، وقد هاله ذاك الإرهاب الفظيع الذي مورس بحق اللبنانيين قبل قرن من الزمن، حتى بدا في كلامه وأدبياته أقرب إلى الحقد والعصبيات منه إلى منطق رجال الدولة ورؤساء الجمهوريات.

لست هنا في وارد النقاش حول تلك الحقبة التي تستلزم بحثًا دقيقًا ومستفيضًا وهادئًا، لكنني وعلى سجية أي ناضج أو عاقل، أبحث عن المضامين الوطنية العميقة لكلام من هذا النوع، في ظل الحساسية المفرطة والخلاف العامودي والجذري حول المقاربات المطروحة، وأبحث أيضًا عن ماهية المصلحة العليا في الاشتباك العبثي مع تركيا، بالتوازي مع المعطيات المتقاطعة عن رغبتها بالدخول على خط الاستثمار في الاقتصاد اللبناني.

لكن بعيدًا من هذه القراءة السطحية أو الساذجة، ألم يكن أجدى بميشال عون أن يسارع إلى لعب دوره الطبيعي في قيادة الدولة والإمساك بقرارها بدل أن يعمد إلى إشعال حفلة جنون بوجه العثمانيين؟ ألم يخبروه مثلاً بأن حزب الله خرق القرار 1701 وعرّض البلاد برمتها إلى واحدة من أخطر المنزلقات على الإطلاق؟ ألم يسمع خطاب الأمين العام وهو يهدم السقوف ويزيل الخطوط الحمر ويدمج لبنان بسوريا؟ ألم يشعر، كما شعرنا، أننا نعيش في غابة، وأن كرامتنا وحياتنا وأولادنا وأرزاقنا باتت رهن المغامرات والعنتريات والتوازنات التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ 

أهكذا يكون الرئيس القوي؟ يتفرّج على أفول الدولة وانسحاقها واهانة مؤسساتها وجيشها ورجالتها وهو صامتٌ وكأن على رأسه الطير. أليس من الأجدى أن نسمع منه كلمة حق في موازاة قضية سيادية لا تحتمل المواربة أو التأويل، بدل الذهاب نحو افتعال القلاقل وتسعير التحريض وسكب الملح في مظلوميات لا تندمل؟   

لا يمكن لأي عاقل أو حكيم أن يقارب هذه الازدواجية الفاقعة إلا من باب الاستهداف الممنهج لفئة بعينها، وهو استهداف يتجاوز المماحكات والصغائر إلى النظرة الأعم والأشمل، ويترك لدينا انطباعًا ناجزًا لا شك فيه حول الاصرار على استحضار التاريخ بهذه الصورة الفظيعة، في مقابل إهمال مريب للحاضر والمستقبل، وكأنها مشهدية انتقامية وثأرية شديدة التجلي والوضوح.   

ليس المطلوب من ميشال عون أن يشتغل في اليوميات. أن يُخّفض سعر الخبز أو أن يبتدع حلاً مبتكرًا لأزمة النفايات والبطالة والليرة. وليس المطلوب منه أيضًا أن يُشكل رأس حربة في مشاريع النفوذ والتوسع والأقليات. المطلوب منه حصرًا هو أن يُعيد انتاج الدولة بكامل مواصفاتها. لا سلاح فيها إلا سلاح الشرعية. ولا قرار فيها إلا قرار المؤسسات. القانون فوق الجميع. والقضاء فوق الجميع. حينها، وحينها فقط، يحجز مكانته في خانة الرؤساء الأقوياء، وإلا فإن تاريخنا مُتخصص في لعن العهود.