يقتحم العام الدراسي أبواب أبناء طرابلس والشمال وعكار وهم يعانون أسوأ أزماتهم المعيشية في ظلّ غيابٍ تام لمبادرات يفترض أن يقوم بها من يتبوؤون مسؤوليات التمثيل السياسي ، النيابي والوزاري ، والقائمون على المؤسسات الإجتماعية والإنسانية.. لكن واقع الحال أن المواطنين يواجهون هذا الإستحقاق الثقيل عـُزّلاً من أي حماية أو تكافل يساعدهم على تخطي كابوس تأمين الإحتياجات المدرسية ، وهم يكافحون ليعبروا بفلذات أكبادهم نحو مستقبل العلم والنور والتطوير..
 
ما يدفعنا لهذا التقديم هو تفاقم الأزمة الإقتصادية والمعيشية لدرجة بات المواطنون يعجزون عن تلبية متطلبات المدرسة الرسمية من تسجيل وكتب وحقائب وقرطاسية ، وعلى هذه الخلفية يتنادى الناس للتظاهر أمام بلدية طرابلس للمطالبة بتسجيل التلامذة في المدارس الرسمية نظراً لوجود أعدادٍ كبيرة من المواطنين غير القادرين على تأمين الإستقرار الدراسي لأبنائهم حتى في المدارس التي يفترض أنها لتعليم أبناء الطبقات الفقيرة.
 
ما لا ينتبه إليه الكثيرون أن واجب التعليم الإلزامي المجاني بات يتعرض للإختراق تحت عناوين كثيرة ، وهي باتت تشكل عائقاً حقيقياً أمام دخول أبناء الطبقات المحدودة الدخل إلى عالم التعليم ، الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية وكبرى عن حقيقة ما يجري:
 
ــ هل نحن أمام مؤامرة حقيقية لقتل التعليم الرسمي بأدوات تفريغه وتطويقه ومن ثم إعدامه بالسمّ تدريجياً ؟
 
ــ ماذا يفعل نواب طرابلس والمنية الضنية وعكار أمام توسّع هذه الأزمة وتهديدها لمستقبل التلاميذ في المناطق التي يؤتمنون على تمثيلها والدفاع عن مصالحها.. ولماذا لا نشهد لهم تحركاً ولا مبادرة وحتى موقفاً ، يسهم في تخفيف هذه المعاناة التي تحاصر مواطنيهم؟!
 
ــ لماذا هذا الغياب المخيف عن تحمّل المسؤوليات، وهل هذا هو مصير الوعود الإنتخابية التي صدرت عن النواب الذين تربعوا اليوم على كراسي تمثيل مناطقهم؟
 
ــ ألم يكن من واجب كل هؤلاء الوزراء والنواب تحضير ما يلزم لإستقبال العام الدراسي والوقوف إلى جانب مواطنيهم والتحرك بكل إمكاناتهم المادية والمعنوية للتكافل والمساندة؟!
 
هذا الواجب ، أصبح اليوم في خبر كان ، والناس في طرابلس والمنية الضنية وعكار متروكون لمصيرهم ، يتخبطون في أزماتهم ، ولم يجدوا من يسمع إستغاثتهم ولا من يهبّ لنجدتهم..
 
هذا الواقع المرير لمسه الناس بينما هم يبحثون عن سبل الخروج من أزمة لا يمكن التقليل من خطورتها ، لأن تدهور الأوضاع المعيشية وغياب المعالجات لضمان وصول التلاميذ إلى صفوفهم ، يراكم المزيد من التسرّب المدرسي والمزيد من الأجيال الضائعة التي تتحوّل إلى قنابل إجتماعية منفلتة ، تتجه إما نحو التطرف والعنف والإرهاب ، أو نحو الإنحراف وسلوك طرق المخدرات والسرقة والإحتيال ، وهذا كله يؤدي إلى نشوء حقدٍ إجتماعي واسع النطاق ، يقسم الوطن ويهدّد السلم الأهلي والإجتماعي.
 
وفي خضمّ هذا المشهد المظلم والمؤسف لفتتني المبادرة التي قام بها السيد أنطون صحناوي تجاه تلاميذ المدارس الرسمية في طرابلس وعكار ، وشملت مناطق متنوعة وفق معايير إنسانية راقية ، ويبدو أنها أخذت منحى التركيز على اكثر المناطق حاجة للإستجابة للحالات الصعبة والملحة.
 
واللافت أن هذه المبادرة لا يمكن تصنيفها ضمن الدعاية السياسية ، لأن أنطون الصحناوي إبن الأشرفية لا يسعى لصرف نفوذٍ في طرابلس أو عكار.. 
 
كما أن أنطون صحناوي إبن الطائفة المسيحية الكريمة لا يحتاج للعمل في التبانة ولا جبل محسن والميناء ولا في قرى وبلدات عكار ، ليحقـّق مكسباً إسمياً لشخصه أو ليقيم عراضةً فولكلورية من خلال مبادرته..
صحيح أن أنطون صحناوي يقدم المبادرة من خلال مصرفه (سوسيته جنرال Sgbl) ، فإن هذا يندرج في إطار قيام هذه المؤسسة بالواجب الإجتماعي ، ومن المفيد حصول مبادراتٍ كهذه والتنافس في هذا المضمار ، لأنه تنافس على أبواب الخير والتكافل والتضامن الإنساني والوطني.
 
ومن الأمور التي راعتها مبادرة أنطون صحناوي ، منع تصوير الأطفال والأهالي المستفيدين من التقديمات المدرسية ، وفي هذا إحترامٌ لهم وحفظٌ لإنسانيتهم وإشعار لهم بالإحتضان وعدم إستغلالهم لأغراضٍ دعائية تتحول مع الأسف في كثير من الأحيان إلى ما يشبه التشهير والإهانة من قبل بعض المنفذين لمثل هذه المبادرات.
 
بهدوءٍ ومودة إنسابت مبادرة أنطون صحناوي في طرابلس بأحيائها المتنوعة ، فحطّت رحالها في مناطق طرابلس والميناء ، وهي مستمرة لتشمل شرائح مسلمة ومسيحية وعلوية ، ولتحمل رمزية العيش المشترك ورفض التمييز والتفرقة بين اللبنانيين طائفياً ومناطقياً.
 
ما لفتني أيضاً خلال متابعة هذه المبادرة ، هو أنها ليست الأولى لأنطون الصحناوي في طرابلس ، بل سبقتها مبادرة أخرى لتأهيل وتجميل جدران المدارس الرسمية في المدينة ، وخطوة أخرى خلال شهر رمضان المبارك الفائت بتقديم إفطاراتٍ للصائمين ، وهذا يجعلنا نتوقف عند أهمية ما يقوم به السيد الصحناوي لجهة رمزية التواصل الوطني وإبداء الحرص على أن تكون مبادراته ذات طابع إنساني شامل ، وهو أمرٌ يستحق التقدير ، بغض النظر عن حجم التقديمات ، لأن سدّ كامل الثغرات يعيدنا إلى دور الدولة المفقود وإلى دور أصحاب المسؤوليات الغائب والمنقلب على واجباتهم الكبرى.
 
لن تستطيع مبادرة أنطون صحناوي تغطية جميع الحاجات ، فالعجز كبير والفراغ أكبر ، ولكن قيمتها أنها أضاءت شمعة وسطَ الظلام ، وكشفت عوار مسؤولين ليسوا مسؤولين ، وذكرت أبناء طرابلس وعكار أن عليهم التفكير ملياً في خياراتهم السياسية منذ الآن ، حتى لا يجدوا أنفسهم من جديد أمام نواب يوصدون أبوابهم في وجوههم ولا يجدونهم في الأزمات والملمّات..