إذا كان لدى كل دولة، مثل كل لغة، قواعدها النحوية، فما هي القواعد التي قد تساعدنا على فهم روسيا اليوم؟


حتى أقل المتابعين للشأن الروسي والزائرين الأجانب المتوافدين على روسيا هذه الأيام يمكنه بسهولة ملاحظة القاعدة الأولى لهذه القواعد النحوية الرمزية: وحدة المتقابلين. من ناحية، لدينا روسيا المرتبطة على نحو يكاد يصل لدرجة الولع بفكرة «الاختلاف». وعلى الطرف الآخر، نجدُ روسيا التي تسعى سعياً حثيثاً خلف «التطابق» باعتبارها عضواً في أسرة الدول الغربية.


ولا تعتبر ازدواجية «الاختلاف - التطابق» بالأمر الجديد على التاريخ الروسي.
في البداية، بنت روسيا هويتها حول ادعائها بـ«الاختلاف» وتصويرها نفسها باعتبارها «روما الثالثة»، بعد روما والقسطنطينية، وأنها آخر من يحمل رسالة المسيح داخل القارة الأوروبية التي تبتعد بخطوات متسارعة عن المسيحية. وجراء قرنين من الحروب ضد قوى مسلمة كبرى في ذلك الوقت، أبرزها الإمبراطورية العثمانية وإيران، أضيفت إلى الأراضي المسيحية أكثر عن 12 مليون كيلومتر مربع نتيجة توسع الإمبراطورية القيصرية داخل آسيا الوسطى وسيبيريا وحوض بحر قزوين والقوقاز.

 


ونظراً لكونها محصورة بين ما يفترضون أنه أوروبا في حالة فقدان للهوية المسيحية سريعاً، وعالم مسلم ينظرون إليه باعتباره يسعى للانتقام، طوّر بعض الكتاب والشعراء والفلاسفة الروس فكرة سلافوفيليا، التي تدور حول أن الشعوب السلافية تشكل قطاعاً متميزاً وأرقى من البشرية. وتحولت السلافوفيليا إلى آيديولوجية وطنية. وشكل رفض باسيل الكفيف عام 1439 انضمام روسيا إلى زمرة الأمم الأوروبية تحت زعامة الكنيسة اللاتينية، جذور هذه الآيديولوجية. وبمرور الوقت، أضفى عدد من الفلاسفة أمثال أليكسي خومياكوف وكونستانتين أكاساكوف، وكتاب مثل نيكولاي غوغول، طابعاً علمانياً جديداً على هذه الآيديولوجية.
وبمرور الوقت أيضاً، تعرضت السلافوفيليا باعتبارها الآيديولوجية الوطنية الجديدة لروسيا انتقادات، وعارضتها شخصيات بارزة متنوعة مثل بوريس غودونوف، وبطرس الأكبر، وبيوتر تشاداييف، وفان كريفسكي، وألكسندر هيرزن الذي دعم فكرة وجود هوية بديلة للأمة الصاعدة. وأطلق على أبناء هذه المجموعة اسم «المستغربين»؛ لأنهم نظروا لروسيا باعتبارها دولة أوروبية حديثة، وليس «روسيا القديسة» التي يصورها السلافوفيليون الذين كانوا يتصرفون وكأن الزمن قد توقف عند القرن الـ15.

 


ويعتبر فلاديمير بوتين نفسه تجسيداً لهذه الازدواجية على أعلى مستويات السياسة الروسية، فهو يتصرف كسلافوفيلي عندما يكون في حاجة إلى تبرير نمط حكمه الاستبدادي، مقارنة بالديمقراطيات الأوروبية الحديثة. في الواقع، واحدة من عباراته المفضلة: «روسيا مختلفة!».


ونجح بوتين في استمالة أساقفة الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، من خلال إقناعهم بأن نظامه حليف وحامٍ لهم في مواجهة الإلحاد واختراق الكنائس الغربية والحركات الأميركية النابذة للكتاب المقدس.
ويفتخر بوتين بأدائه رحلة حج إلى الأرض المقدسة، حيث من المزعوم أنه عايش تجارب روحانية، ويعمل على تعزيز سمعته كرجل يحرص على جمع الأيقونات والتذكارات الدينية، إلا أنه في الوقت ذاته، يرغب في تصوير نفسه باعتباره شخصاً غربياً حتى النخاع على غرار بطرس الأكبر؛ لأنه يعي أن الطبقات الوسطى المتمددة بسرعة داخل روسيا والتي يملك أبناؤها حسابات بنكية في لندن وزيوريخ أكثر اهتماماً بالسفر إلى الريفييرا الفرنسية عن «الأرض المقدسة» المتنازع عليها بين إسرائيل وفلسطين.

 


من ناحية أخرى، وبعد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات ضد روسيا لضمها شبه جزيرة القرم، أطلق بوتين حملة لإقناع شعبه لقضاء إجازاتهم في تركيا وإيران اللتين تسمحان بدخول الروس من دون فيزا. وبعد عامين، لا تزال أعداد الروس الذين انساقوا وراء حملته هزيلة. وتكشف أحدث التقديرات عن أن نحو 100 ألف روسي يزورون تركيا، بينما لا تزال أعداد الروس الذين يتوافدون على زيارة إيران أقل عن 5 آلاف. على النقيض، نجد أنه عام 2018 اجتذبت فرنسا 3.2 مليون زائر روسي.

 


وربما يحاول محللون جيوسياسيون في الغرب الترويج لفكرة أن بوتين يشكل تحالفاً مع رجب طيب إردوغان وعلي خامنئي. ومع هذا، فإن الحقيقة أن بوتين، وكذلك قاعدته الانتخابية بدرجة أكبر، تراوده رغبة قوية في تعزيز روابط أوثق مع قيادات مثل إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب.


وربما تتحدث روسيا بنبرة سلافوفيلية، لكن في أعماقها ترغب في إعادة السماح لها بالانضمام إلى المعسكر الغربي. ويبدو هذا واضحاً في أسلوب ملبس الروس وأنماط الطعام والمشروبات التي يتناولونها، والموسيقى التي يستمعون لها والأفلام والمسلسلات التي يشاهدونها والكتب التي يقرؤونها. ويكفي النظر إلى الصفوف المتراصة أمام مطاعم ماكدونالدز مؤشراً على زحف التحول إلى نمط الحياة الغربية على روسيا. كما أن حقيقة امتلاك ملايين الروس حسابات بنكية في الغرب، بما في ذلك قبرص أو حتى اليونان المريبة، لا يمكن اعتبارها مجرد مصادفة.

 


ولدى دخولك في مناقشات مع مثقفين روس، سرعان ما ترصد كزائر للبلاد شعوراً بالقلق من أن روسيا ربما تجد نفسها معزولة في مواجهة قوة صينية اقتصادية وعسكرية صاعدة من ناحية، وتطرف إسلامي تتزعمه إيران وتركيا من ناحية أخرى.
وتكشف نتائج الانتخابات البلدية التي أعلنت الأسبوع الماضي، عن انتكاسة واضحة للبوتينية في نسختها السلافوفيلية؛ فقد خسر حزب روسيا الموحدة الذي يتزعمه بوتين ثلث مقاعده في موسكو التي تحدد إيقاع الانتخابات الوطنية منذ عشرينات القرن الماضي على الأقل.

 


اليوم، يداعب روسيا حلم العودة إلى الجانب الغربي من هويتها. ويدعي بعض المحللين في الغرب أن هذا محض أوهام، وأن بوتين يرغب في خداع الديمقراطيات الغربية ودفعه لمعاونته على اجتياز مشكلات يواجهها قبل أن يعاود سيرته الأولى. جدير بالذكر، أن دعوة الرئيس ماكرون لإعادة دمج روسيا في الغرب أثناء قمة مجموعة السبع الشهر الماضي قوبلت بالرفض، من جانب مشاركين آخرين حتى قبل أن تجد طريقها إلى الأجندة.
تحت قيادة بوتين، تتصرف روسيا مثل مدفع دون كابح، وتطلق مفاجآت رديئة من حين إلى آخر، ليس فقط في الغرب وإنما كذلك في الصين وغيرها. وعليه، فإن تحقيق استقرار داخل روسيا من خلال تحديد مكانها المناسب في النظام العالمي الصاعد، أو ربما الفوضى العالمية إذا جاز التعبير، ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لصناع السياسات والاستراتيجيين في جميع العواصم الكبرى. ولا يمكن إنجاز عملية إعادة التعريف تلك فقط من خلال صب اللعنات عليها، أو النسخة الحديثة من هذه اللعنات وهي العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ـ درس جلي اليوم مثلما كان في مجلس فلورنسا في القرن الـ15.