هذه الصورة المحتقنة، التي رسمتها تداعيات حادثة قبرشمون، تضع الاستقرارين السياسي والاقتصادي، ومعهما الاستقرار الامني على المحك. خصوصا انّ البلد يقترب من الدخول في مدار الاحتمالات الصعبة، وفتيل التوتر يبدو انّه صار ممدوداً على طول خطوط التماس السياسية والقضائية والامنية، بالتوازي مع التجفيف الكامل لنبع المبادرات الرامية الى حلّ هذه الأزمة، والتي تولاّها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي اعاد امس تأكيد اصراره على انّه قد اطفأ محرّكاته نهائياً في هذا الاتجاه.

هذا في وقت تبقى الحكومة الضحية الاولى لهذه الأزمة، والتعطيل الذي عصف بها منذ ما يزيد على الشهر، يبدو أنّه سيستمر الى اجل غير مسمّى، ما يعني انّ لا جلسات لمجلس الوزراء في المدى المنظور.

كان اللافت امس، المؤتمر الصحافي الذي عقده الحزب التقدمي الاشتراكي، وعرض فيه الوزير وائل ابو فاعور ملابسات حادثة قبرشمون وارتداداتها السياسية والقضائية والامنية، وقدّم خلاله ما يشبه اضبارة اتهام في اتجاه رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، من دون ان يوفّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وتبعه رئيس الحزب النائب السابق وليد جنبلاط بتغريدة اعلن فيها الصمود امام ما سمّاه «الارهاب المنظّم».

وخلال المؤتمر، حمّل ابو فاعور باسيل «المسؤولية المعنوية والسياسية والقانونية عن الحادثة»، واعتبر انّ «ادّعاء الكمين سخيف ولم يكن هناك محاولة اغتيال»، وطالب الحزب الديموقراطي والوزير صالح الغريب بتقديم اعتذار، الّا انّ الوزير الغريب اكتفى بالقول لـ«الجمهورية»: «صحيح لقد طلبوا اعتذاري، فأنا اعتذر منهم لانّهم لم يستطيعوا قتلي».

ما ورد في هذا المؤتمر احدث اهتزازاً في الساحة الداخلية، تبدّى في الردود الاعتراضية على المؤتمر، والتي بدا انّها تمهّد لردّ اعنف في وقت قريب في مؤتمر صحافي مماثل على حد ما توّعد به الحزب اللبناني الديموقراطي برئاسة النائب طلال ارسلان.

بعبدا

وفيما آثر القصر الجمهوري عدم الرد مباشرة على ما قاله ابو فاعور، اكتفت مصادر وزارية مقرّبة من رئيس الجمهورية بالقول لـ«الجمهورية»: «ان الملف بات في عهدة القضاء بعد فشل سلسلة المبادرات التي أُطلقت في اكثر من محطة على مدى اكثر من خمسة اسابيع. وطالما انّ القضاء وضع يده على كل ما حصل وبوشرت التحقيقات مع الموقوفين وشهود العيان فلنتركه ليقول كلمته حتى النهاية الحتمية».

بدوره، غاب الوزير جبران باسيل عن الردّ على اتهام ابو فاعور له، فيما جاء موقف تكتل لبنان القوي على لسان النائب ابراهيم كنعان، الذي اعتبر أنّ «المؤتمرات الصحافية والسجالات والتجاذبات لن تغيّر الوقائع الموجودة عند القضاء».

ودعا السلطة القضائية الى «عدم الاكتراث لأي تجاذب سياسي وان تلتفت فقط لإحقاق العدالة».

وفيما لفت موقف كتلة تيار المستقبل التي استنكرت «التشكيك بنتائج التحقيقات التي يتولاها فرع المعلومات» وحذّرت من «الذهاب بعيداً في هذا المنحى، ومن أية خطوات مدروسة تتعمّد وضع الجهود الجارية لتحقيق المصالحة أمام طريق مسدود»، سأل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي: «هل بتنا في دولة مزارع وطوائف ونافذين، يسير القضاء بحسب الاهواء واذا اعجبنا الحكم نرضى به وان لم يعجبنا نرفضه».

التعطيل مستمر

حكومياً، لا جديد على هذا الصعيد. وفي بيت الوسط يسود صمت حيال التطورات الاخيرة، بانتطار عودة الرئيس سعد الحريري من عطلته الخارجية المرتقبة اليوم. فيما تحدثت معلومات عن اتصالات اجراها الحريري في الساعات الماضية من اجل ملاحقة التطورات، لكن لا مؤشرات الى امكان توجيه الدعوة الى جلسة لمجلس الوزراء في المدى القريب، في ظلّ ما يعتبرها فريق رئيس الحكومة، الشروط التي لا يمكن القبول بها بأي شكل من الأشكال واياً كانت الكلفة المترتبة عليها.

الحسيني

الى ذلك، إعتبر النائب مصطفى الحسيني، أنّ «كل ما يجري اليوم، هو إنحراف عن الدستور والقانون، والانحراف الأخطر هو التمادي في التطاول على القضاء».

 

وقال الحسيني لـ«الجمهورية»: «لو أنّ الامور سارت من الاساس في الشكل الصحيح قضائياً، فما كانت هناك مشكلة»، وسأل: «لماذا الاعتراض على المحكمة العسكرية؟ فالمحكمة العسكرية تعطي نتائج مهمة جداً، وسريعة جداً، وحين تثبت نظرية المؤامرة يمكننا حينها التوجّه الى المجلس العدلي».

وختم قائلا: «عودوا الى الدستور و»قدّسوه» واحترموا القضاء بالحد الأدنى، فما يحصل في لبنان لا يشبه لبنان ولا دستوره ولا نظامه».

حنكش

ودعا النائب الياس حنكش الى «ترك القضاء يأخذ مجراه بعيداً من التدخل السياسي، لأنه بات واضحاً للعيان أنّ الهدف هو لي ذراع جنبلاط».

واذ اكّد انّ التسوية الرئاسية قد فشلت، ودعا الى انتخابات مبكرة، قال لـ«الجمهورية»: «نحن أمام حكومة أضداد، تصل بنا الى شفير الحرب الأهلية حين يختلفون، وتعود الى شهر العسل وتصبح حكومة مصالح مع كل موعد للتعيينات والمحاصصة».

«الكتائب» و«القوات»

الى ذلك، وفيما اكّد حزب الكتائب سقوط التسوية الرئاسية، ودعا الجميع إلى الاعتراف بفشلها والاسراع في تحمّل المسؤولية والإنضمام إلى المعارضة البنّاءة لتعزيز البديل الجدّي لإنقاذ البلاد، أسفت مصادر «القوات اللبنانية» «لسقوط المبادرة تلو الأخرى في حادثة قبرشمون، ولهذا التعقيد السياسي والتسخين المتواصل، فيما كان يُفترض منذ اللحظة الأولى، فصل المسار القضائي عن المسار الحكومي، بحيث أنّ التعطيل يجب ان يكون ضمن الخطوط الحمراء، فالتعطيل ممنوع، والانتظام يجب أن يكون قائماً».

واعتبرت المصادر، انّ «ما يحصل هو جريمة كبرى بحق لبنان». وقالت لـ«الجمهورية»: «من المؤسف أن تذهب الأمور باتجاه تعطيل العمل الحكومي بها الشكل، وأخذ البلاد الى مواجهة سياسية وطنية ليست في أوانها، في لحظة مالية إقتصادية حرجة للغاية، وفق ما يؤكّد الخبراء وأصحاب الاختصاص الاقتصاديين، في حين كان يُفترض في هذه المرحلة أن تكون جلسات الحكومة شبه يومية، من أجل ترجمة موازنة 2019 في مؤتمر «سيدر»، والانطلاق بوضع موازنة 2020، حيث أنّ الاوضاع لا تحتمل المماطلة فكيف بالحري التعطيل؟».

وعن إتهام القوات بدفع الرئيس الحريري لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك، قالت المصادر: «هذا الكلام مردود، لأنّ أحداً من الأفرقاء قادر على دفع الحريري في الاتجاه الذي يريده، فالحريري هو رئيس حكومة كل لبنان، وهو يدرك مسؤولياته الوطنية جيداً».

وحمّلت المصادر «رئيس التيار الوطني الحرّ الوزير جبران باسيل مسؤولية ما آلت اليه الأمور، ومسؤولية الجو السياسي الملبّد والذي أدّى الى خسائر وطنية وإقتصادية وسياسية».

خبراء يحذّرون

في هذا الوقت، وضعت مجموعة من الخبراء الاقتصاديين تقريراً حول حراجة الوضع الاقتصادي، تضمّن في مستهله، اشارة الى الارباك في السوق المالي جرّاء التطورات السياسية والامنية الاخيرة، وتأكيداً بأنّ الملف الاقتصادي في هذه المرحلة ينبغي ان يعلو فوق كل الاولويات الاخرى لدى كل الطبقة السياسية، والعمل بجدّية على ايجاد حلول في أسرع وقت.

ويلحظ التقرير، أن تأخّر انعقاد مجلس الوزراء واستمرار الخلافات والتشنجات السياسية، امر لا يساعد على التقدّم نحو الحلول، بل يُفقد المواطن اللبناني ثقته بالطبقة السياسية، ويؤكّد عدم جدّيتها في التعامل مع الازمة الاقتصادية وهموم المواطنين الاساسية، والاخطر من ذلك انه يُفقد ثقة المراقبين والهيئات الدولية والاسواق المالية والمستثمرين بلبنان، خصوصاً انّ امام لبنان اختبار صعب مع موعد التصنيف المُرتقب له بعد اقل من اسبوعين.

واشار التقرير الى تراجع اسعار السندات اللبنانية في الأسواق العالمية وارتفاع كلفة التأمين على الدين اللبناني في الاسواق، وهذا مؤشر الى انّ الاسواق المالية تتعامل بتشكيك مع الوضع اللبناني، وانّها غير واثقة بقدرة لبنان على تنفيذ اصلاحات ومعالجات.

وخلص التقرير الى اقتراح المسارعة في انعقاد الحكومة ووضع خطة انقاذية فورية تتضمن كل الاصلاحات الاقتصادية والمالية والبنيوية التي باتت مطلوبة بإلحاح، وتشكيل خلية عمل اقتصادية تتواصل مع الاسواق المالية والمؤسسات الدولية والمستثمرين المحليين والعالميين لشرح هذه الخطة، بالتوازي مع الشروع في تنفيذها فوراً ومن دون ابطاء. فاستمرار الوضع على ما هو عليه يدفعنا الى افتراض صعب، وهو ان ما بعد التصنيف المرتقب للبنان غير ما قبله.