القلق من انتفاضة الشعوب في الداخل الإيراني أكبر من قلق المواجهة العسكرية التي يراها النظام مواجهة محدودة، ولن تكون إلا شبحا يمكن السيطرة عليه بأقل الخسائر أو إبعاده ومواجهته خارج الحدود.
 

وصول حاملة الطائرات الأميركية “أبراهام لينكولن”، وهي الأضخم في تاريخ البحرية برفقة بوارج الحماية والإمدادات إضافة إلى قاذفات الـ”بي 52” الاستراتيجية إلى منطقة الشرق الأوسط، كانت رسالة سياسية أكدها الوصول الطارئ لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بغداد ولقائه برئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي تحديداً، رغم أن وسائل الاتصال بالنظام الإيراني متاحة بوسطاء دوليين كان بإمكانهم أن يكونوا رافعة لمدى جدية الولايات المتحدة في مواجهة رد الفعل أو التهديدات الإيرانية، بعد قرار تصفير الصادرات النفطية بإلغاء الإعفاءات المؤقتة ووضع الحرس الثوري على لائحة المنظمات الإرهابية.

لماذا اختارت الخارجية الأميركية العراق مكاناً لتبليغ ملالي طهران بمضمون التصعيد والتأهب بدرجاته القصوى والعملية بتلك الحزمة من الإنذارات البحرية والجوية رغم التموضع الدائم، أو شبه الدائم، للقوات الأميركية في القواعد الثابتة والمتحركة على الأرض أو في البحر وبسلاح جوي يؤدي يومياً طلعاته القتالية أو التدريبية.

الإجراء الأميركي المزدوج، العسكري والدبلوماسي، عدا عن رصده مخاطر المعلومات التي وثقت حركة الصواريخ الباليستية في البصرة وغيرها والموجهة لأهداف في الخليج العربي، كان مدفوعاً بالقلق الأميركي من حجم يأس ولاية الفقيه من العقوبات الاقتصادية وإدراج الحرس على لائحة الإرهاب. لذلك فإن التنبيه الأميركي ضبط إيقاع الميليشيات وحدّ من تصرفاتها وأساليبها المتوقعة باختطاف واحتجاز الرهائن من الدبلوماسيين أو العاملين في الشركات، ثم المساومة عليهم إيرانياً لتخفيف العقوبات أو الجلوس لطاولة مفاوضات على “مقربة” من شروط بومبيو.

التصرف الأميركي، طرح ثماره في إيقاف تهور الميليشيات التي تتطوع أحياناً لتلبية ما في صدر الولي الفقيه وليس أوامره فحسب، عندما شمل بتهديداته النظام الإيراني وحرسه وأذرعه الخارجية في حال تعرضها لمصالح أميركا وحلفائها في المنطقة. التحول في أداء فصائل الحرس الثوري نلمسه في تضارب آراء زعماء الميليشيات في العراق أو في صمتهم وتباين مواقفهم من إطلاق صاروخ الكاتيوشا على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء.

الاسترخاء الأميركي البادي للعيان في تصريحات الرئيس دونالد ترامب أو فريقه في إدارة البيت الأبيض، وإن كان في جزء منه خاضع لضغوط داخلية أميركية، إلا أنه يبدو كما لو كان استحضارا لاستثمار الضغوط والهدوء الحذر في التهيئة لسواتر الحرب بمعناها الاحترافي في حالة عدم استجابة النظام الإيراني لمرحلة الردع.

البنتاغون يفند الاسترخاء بالنظر في طلب إرسال وجبات إضافية من المقاتلين على خلفية التوتر، وهي أرقام متضاربة، وذلك من طبيعة هذه المهمات، لكن يمكن قراءتها واقعياً على ضوء الحضور العددي المباغت للفرق المجوقلة، وما يصاحبها من جهد هندسي لبناء قواعد مؤقتة قرب القواعد الثابتة، كما قاعدة عين الأسد، قد تكون مقرات بديلة أو ضمن خطة الانتشار.

ميليشيات الحرس الثوري استغلت إطلاق صاروخ الكاتيوشا على السفارة الأميركية والهدوء الذي يسبق احتمالات الأخطاء الفادحة في السياسة الإيرانية بتبنيها الأيديولوجيا في استخدام لغة السلاح والتعويل عليها في الخروج من ورطة المواجهة على الحدود أو داخل الأراضي الإيرانية هذه المرة.

الميليشيات تلقفت التكتيك الإيراني في ضرب الناقلات في المياه الإقليمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، كتعميم يشير إلى جهة ثالثة أو طرف آخر على طريقة اتهام المندسين في الاحتجاجات سواء في العراق أو إيران، وفي تكرار لسيناريوهات الدعاوى الكيدية والاستهداف الطائفي وإطلاق الفتن والإرهاب والقمع والاعتقالات والتغييب لخلط الأوراق في المزيد من الانتهاكات والخروقات الإنسانية والاقتصادية وحتى الإبادات.

لكن ما لا تستطيع فصائل الحرس الثوري التكتم عليه، ولو مؤقتاً، هو ولاؤها لولاية الفقيه، وهو ما يفعله إعلام الحرس الثوري في إيران عندما يشيد ويفتخر بتفجير الناقلات في الفجيرة عندما يصفه بالعمل المتقن الأداء “للطرف الثالث”، من دون أن يخفي فوائده من ضرب المنشآت النفطية والتحفيز على توسيع نطاقه للضغط على الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات.

الصواريخ الباليستية لم تعد مجهولة المصدر، ومن يتبناها لا يريد إخفاء علاقته بنظام الملالي، والطائرات المسيرة هي جزء من الصناعة الحربية الإيرانية التي بدأت في اليوم الذي تجرع فيه الخميني كأس السّم إثر هزيمة قواته في حربها مع العراق. تلك الحرب مازالت تراود القائمين على مشروع تصدير الثورة، بل إن نتائجها كانت سبباً في سعيه لامتلاك السلاح النووي وتطوير برامجه الصاروخية أو صناعة الطائرات بدون طيار، وسبق للعراق أن أسقط عدداً منها في تسعينات القرن الماضي لاختراقها الحدود في مهمات متعددة تتجاوز الاستطلاع والتصوير إلى الاستهداف القتالي، أو ما يدخل في الحروب الاقتصادية المسجلة- كالعادة- ضد مجهول.

العراق، حتى في ظروفه هذه، يؤرق ويقلق نظام ولاية الفقيه رغم أن مقادير السلطة فيه بيد الأحزاب الإيرانية وفصائلها المسلحة، لكن مع ذلك فإن النظام السياسي فشل في رهانه على تعبيد طريقه إلى العراقيين بمجرد ولائه العقائدي، فالبصرة كانت شاهدة على إحراق القنصلية الإيرانية ومقرات الأحزاب الطائفية وصور الخميني وخامنئي، وهو ما حصل في معظم مدن الجنوب.

السفارة الأميركية في بغداد تؤكد أن واشنطن ليست في حاجة إلى وساطة مع إيران، في رد على نشاط رسمي في العراق يتعلق بالتهدئة لحماية المصالح الإيرانية من التصعيد الأميركي، وذلك بعض من سياسة التقية في الاستجابة لمصالح الوزير مايك بومبيو في حماية المصالح الأميركية من أي هجمات لميليشيات الحرس الثوري.

العقوبات الأميركية على نظام الملالي وما تلاها من سياسة حافة الحرب، فرضت على المرشد علي خامنئي وعلى الرئيس حسن روحاني متابعة كل شاردة وواردة في التصريحات الأميركية والدولية والتعليق عليها، بما يؤكد مستوى القلق الحاد الذي يعيشه النظام لمنع انهيار معنويات حرسه وقواته التي يختصر من خلالها معنويات الشعوب الإيرانية ووحدتها وكيف أدت، كما يقول روحاني، إلى تراجع الإدارة الأميركية عن قرار الحرب.

مؤشر انهيار النظام الإيراني يكمن في زيادة نقاط التفتيش في الشوارع العامة في المدن الإيرانية، وعدم دفع الرواتب وتسريح العاملين، أو بتشكيل فصائل جديدة وازدياد نسبة الفقر والتضخم، أو في حجم القوات الجوالة المكلفة بمراقبة الأمن، بما يعزز فكرة أن القلق من انتفاضة الشعوب في الداخل الإيراني أكبر من قلق المواجهة العسكرية التي يراها النظام مواجهة محدودة، ولن تكون إلا شبحاً يمكن السيطرة عليه بأقل الخسائر أو إبعاده ومواجهته خارج الحدود.