لم يبقَ في هذه الدولة قطاعٌ أو مرفقٌ أو مؤسسة إلاّ في حالة إضراب... الدولة عاطلة عن العمل من تحت، وعاطلة من فوق.

وهؤلاء الذين يعكفون على مناقشة الموازنة وعيونهم تكاد تلتهم الأرقام.. تراهُمْ، والعرق يتصبَّب من عقولهم كأنَّهم يحاولون اختراع واحدةٍ من عجائب الدنيا السبع.

والموازنة لا تحتاج إلى كلِّ هذا الكدْح من السهر والجهد، يكفي أنْ تُحصى موجودات «بيت مال» الدولة، وموجودات «بيوت مال» بعض رجال الدولة لنعرف أن الموازنة التي تعني توازن الواردات والنفقات، فهي عندنا تعني التوازن بين الواردات والنفقات والسرقات.

لأنهّم على مدى بعضٍ من السنين يحكمون بلا موازنة، قَـدَّر الخبراء الماليون حجم المال المنهوب بخمسة وأربعين مليار دولار... وهل نسأل مع هذا، عن الذين «من أين لهم هذا»...؟ وهمُ الذين دخلوا ملكوت السلطة بأثواب بالية وخرجوا منها بأزياء الملوك...؟

الفاسدون الرسميون هم الذين يسميهم «موريس لو بلان» مخترع شخصية «أرسين لوبين»، باللصوص الظرفاء في رواياتِه البوليسية الشهيرة، لمِـا يبرعون في أساليب الإختلاس الإحتيالي وتشريع المحرّم للفساد المنظَّم.

الرئيس الياس سركيس أهدى إليه حاكم دولة عربية مليون دولار أميركي فوهبها للخزينة، لأنه لو لم يكن رئيساً للجمهورية لَـما تلقّى هدية من هذا النوع، فهي إذاً من حق الجمهورية لا من حق رئاساتها.

نعرف أنّ اللصوص الظرفاء لم تعدْ طرائد الأوراق الخضراء سهلة المنال أمامهم، بسبب كثافة «عدَسات» المراقبة وأعيـن الرصد، وبهذا لا يعود المطلوب مطاردة الفساد من الآن وصاعداً بل من الآن وسابقاً، من أجل استرداد المال المنهوب، وإلاّ فكيف يتحقق أمر التكليف الشرعي الذي تبنّاه حزب الله في مكافحة الفساد إنطلاقاً من تعاليم الإمام الأكبر أمير المؤمنين علي.

«كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً... فاتَّقِ الله وأردُدْ الى هؤلاء القوم أموالهم... لأراملهم وأيتامهم... وارفع إليّ حسابك وأعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس...»

لعلّ الخوف من حساب جهاز المراقبة السماوي أجدى عندهم من حساب أجهزة مراقبة الدولة.. ولا نخال «المافيا» عندنا قادرةٌ على التمثّل بالمافيا الإيطالية التي أدخلت بطلة أفلام «البورنو» «تشيشولينا» chichollina الى مجلس النواب وجعلَتْها تتعرّى أمام الكاميرات للدلالة على براءة رجالها البرلمانيين من اختلاس المال العام.

من محاذير التاريخ أنَّ نفوس الجماهير عندما تصبح معبَّأة حتى الإنفجار بما تسبّبه ممارسة السلطة والأزمات المالية من مظالم وتعاسة وبـؤس، فالمعالجة إذ ذاك تصبح عقيمة بأنابيب التخدير وفذْلكة الخبراء.

الملك الفرنسي لويس السادس عشر إستنجد على التوالي بثلاثة من كبار الخبراء لتغطية فساد السلطة وانهيار الدولة المالي، فكان رفْضُ الشعب عارماً، وكان ما كان من مذابح ومجازر أطاحت رأس الملك والملكة، وتدحرجتْ معهما قافلة كثيفة من الرؤوس تحت شفرة المقصلة... نجِّنـا يا رب.