كان من الممكن أن يؤدي سقوط البشير إلى إشاعة نوع من التفاؤل لو أن نظامه العقائدي سقط معه، ولو أن الجيش اكتفى بحماية ذلك المنجز التاريخي. غير أن الأمور لم تسر وفق ذلك المنحى.
 

ليست هناك قوة قادرة على تحييد الجيش السوداني أو ضبط حركته. لا الشعب ولا المعارضة. الطرفان لا يملكان الرغبة أو الإرادة في التحكم مع ما هو غير متوقع من تداعيات لو أنهما اصطدما مع الجيش. وهنا تكمن واحدة من أعظم الإشكاليات التي يمكن أن ينتهي بها الحراك الشعبي السلمي الذي أسقط عمر البشير وأنهى حكمه.

سقط البشير غير أن الجزء الأكبر من آليات نظامه باقية.

“ليس هناك من بديل سياسي جاهز” عبارة تسمح للجيش بأن يكون في الواجهة من أجل “الحفاظ على سلامة الوطن والمواطن”. يمكن اعتبارها مسوّغا واقعيا، غير أنها في الوقت نفسه تعبر عن خواء الحياة السياسية التي لا يمكن أن تنتج في الفترة الانتقالية بديلا سياسيا مختلفا. ذلك لأنها لن تجرؤ على القيام بتصفية أحوالها من تبعات مرحلة مظلمة امتدت أكثر من خمسين سنة هي عمر نظامي جعفر النميري وعمر البشير.

كما أن الاحتجاجات التي أسقطت البشير لم تطل القيم الثقافية والاجتماعية التي سادت بتأثير قمع واستبداد النظام العقائدي الشمولي الذي أحدث تغييرا عظيما في طريقة التفكير السائدة بعد أن سمح لجماعة الإخوان المسلمين بالتغلغل في ثنايا المجتمع السوداني، بحيث صار مقبولا أن يحتضن السودان منظمات إرهابية عديدة بدعوى التضامن مع الفكر الديني الذي تتبناه وتسعى إلى نشره والدفاع عن ثوابته.

لم يكن تغيير النظام مطلبا شعبيا. ذلك لأن أحزاب المعارضة في مجملها تنتمي إلى منظومة الأفكار التي تبناها ذلك النظام. لقد تم تحميل البشير شخصيا أسباب الانهيار الاقتصادي وهو أمر ليس صحيحا بشكل مطلق. فمن غير النظام العقائدي الذي استند إليه البشير في تصريف شؤون الحكم ما كان في إمكانه أن يصل بالاقتصاد إلى نتائج كارثية، صارت حياة المواطنين مستحيلة بوجودها.

الآن أقفل الجيش أبواب الاحتجاج وقدم البشير طُعما لتحول غامض، سيكون على أحزاب المعارضة أن تتعامل معه كما لو أنه الحدث الذي سييسر لها الحصول على شيء من مكاسب السلطة. وحتى لو افترضنا أن ذلك التحول سيكون كبيرا فإنه لن يخرج عن دائرة استبدال إخواني بإخواني آخر. وهو ما لن يكون مستهجنا بالنسبة للشعب الذي تمكنت منه الثقافة الإخوانية بسبب عمق الهوة التي صنعها النظام بين الشعب وإمكانية التفكير بحلول سياسية خارج مسلمات المنطق الديني.

كان من الممكن أن يؤدي سقوط البشير إلى إشاعة نوع من التفاؤل لو أن نظامه العقائدي سقط معه، ولو أن الجيش اكتفى بحماية ذلك المنجز التاريخي. غير أن الأمور لم تسر وفق ذلك المنحى.

فالنظام وإن اختفى عدد من رجاله لا يزال قائما وسيبقى ما دامت المعارضة “الدينية” تفضله على سواه وبرضا الشعب الذي تم تجهيله من قبل النظام ومعارضيه، أما الجيش فإنه قطع الطريق على المعارضة خشية أن تكون قد جهزت حالها لركنه جانبا والقفز من خلال “خيارات ديمقراطية” إلى السلطة، لتبدأ صراعات إسلامية – إسلامية متوقعة في بلد كالسودان الذي عُرف دائما بصراعات الإخوة من أبناء البيت العقائدي الواحد.

لم يكن سقوط البشير معجزة إلا من خلال الدعاية التي سيعمل الجيش على بثها بين صفوف الشعب لكي يشعر الشعب بقيمة ما فعله وينسى كل شيء آخر.

“لقد قمنا بواجبنا وعلى الجيش أن يكمل المسيرة” عبارة تنطوي على الكثير من التناقضات. فسقوط البشير كان خيار الجيش من أن يبقى ممسكا بالسلطة. أما المعارضة فليس أمامها سوى أن تستسلم لهذا القدر الذي تأمل أن يحقق لها جزءا من أحلامها.