في خضم فتح ملفات الفساد والحسابات المالية للدولة اللبنانية، واستمرار التجاذبات السياسية حولها، تصدرت الاهتمامات امس جولة المبعوث الفرنسي المكلف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» بيار دوكان على المسؤولين حيث التقى رئيس الحكومة سعد الحريري ووزيري المال علي حسن خليل والبيئة فادي جريصاتي وآخرين، باحثاً في الخطوات المطلوبة لتنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر».

وأوضح دوكان في مؤتمر صحافي مساء انه استخلص من زيارته أنّ لبنان مستعد للبدء بالإصلاحات والاستثمارات، وقال: «تبيّن ذلك خلال لقائي المسؤولين الذين أكدوا أنّ الحكومة لن تضيع مزيداً من الوقت وليس لها ترف الوقت».

وشدد على وجوب تقديم خطة للاصلاحات في القطاعات المتفق عليها كي تكون الصورة واضحة عند المستثمرين وغير معقدة. واشار الى انّ «هناك ايضاً رغبة للحد من الفساد، وأوضحت الحكومة أن لديها خطة واضحة في هذا المجال، ويجب التحرك على مستويات ثلاثة: الاصلاحات، التمويل، المشاريع».

ماذا حمل دوكان؟

في المعلومات المتوافرة لـ«الجمهورية» انّ الموفد الفرنسي حمل رسالة واضحة الى كل المسؤولين اللبنانيين مفادها:

اولاً ـ انّ فرنسا مسرورة بتأليف الحكومة اللبنانية، ولو انّ هذا التأليف جاء متأخراً، لكن بات لديها اليوم محاور شرعي كامل الصلاحيات، تتعاطى معه.

وتمنى ان تعوّض الحكومة عن تأخير تأليفها بتسريع الاصلاحات، لأنّ مؤتمر «سيدر»، وإن كان لا يزال قائماً، وأطرافه يهمّها مصلحة لبنان، ولا تزال تحافظ الى حدّ كبير على قيمة القروض الموعودة، فإنها تضغط لكي تقوم الحكومة اللبنانية بما طُلب منها من خطوات إصلاحية وتشريعات تؤدّي الى حسن تنفيذ المؤتمر.

ثانياً ـ أكد الموفد الفرنسي حرص الدول المانحة، وفي طليعتها فرنسا، على تشديد رقابتها على طريقة صرف القروض التي ستُمنح، وعلى مراقبة المناقصات، بسبب انتشار الفساد في لبنان ـ والمجتمع الدولي هنا غير مرتاح الى وضعية الفساد الذي تتحدث عنه السلطات اللبنانية ومختلف القيادات ـ وبالتالي، الدول المانحة لا تستطيع ان تتّكل على لبننة المراقبة، وتريد مراقبة دولية تمارسها دول مشاركة في «سيدر».

ثالثاً ـ لقد ابلغ دوكان انّ الأموال يجب ان توظّف في مشاريع انتاجية وانمائية وعمرانية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني والمالية اللبنانية، كذلك طلب ان تكون للدولة اللبنانية القدرة الادارية لاستيعاب تنفيذ مشاريع بقيمة نحو مليار دولار كل سنة، على مدى سنوات، خصوصاً انّ هناك تقارير تلقتها باريس من خبراء اقتصاديين تفيد أنّ لبنان ليس قادراً بهيكليته الحالية، وبالخلافات القائمة داخل السلطة اللبنانية، على ان يستوعب هذا المبلغ.

عند الحريري

وكان دوكان ذكّر بعد لقائه الحريري بأنّ ما تم الإتفاق عليه هو نوع من العقد بين لبنان والمجتمع الدولي. يقوم على ثلاث دعائم: برنامج بنى تحتية، التمويل الذي تم التعهد به لهذا البرنامج بقيمة 11 مليار دولار، والإصلاحات اللازمة لتنفيذه».

وشدد على ضرورة ان تحدد الحكومة الاولويات لديها في تنفيذ المشاريع التي طُرحت خلال المؤتمر، مؤكداً جهوزية المانحين لمساعدة لبنان في تمويل هذه المشاريع.

وأشار دوكان الى «إصلاحات قطاعية لوضع المشاريع قيد التنفيذ، وإصلاحات تدخل في الاقتصاد الكلي، وهي جوهرية وضرورية، وإصلاح قطاع الطاقة»، لافتاً الى «انّ العجز المتراكم على مؤسسة كهرباء لبنان يرخي بثقله على التمويل العام في لبنان»، ومؤكداً انّ «من دون كهرباء 24 على 24 ساعة، من الصعب دفع هذا الثمن أو تخيّل حصول استثمارات في عدد من قطاعات الحياة الاقتصادية».

واعتبر دوكان انّ البيان الوزاري «يذهب في الاتجاه الصحيح، وهو يقول بوضوح ما يجب فعله، في مختلف المجالات، بتدابير قصيرة الأمد وسليمة وأخرى أكثر ثقلاً»، موضحاً انّ الرسالة التي نقلها إلى الحريري، والتي تحدث في شأنها مع مجتمع المانحين «هي أنه لا بد من البدء بالتنفيذ سريعاً».

وقال: «لا يمكن بالتأكيد إنجاز كل شيء في الأسابيع المقبلة، لكن لا بد من تقديم إشارات في هذه الفترة تؤكد ما نراه في البيان الوزاري من إرادة السلطات اللبنانية المضي قدماً ووضع برنامج البنى التحتية قيد التنفيذ، وكذلك الإصلاحات القطاعية والمتعلقة بالاقتصاد الكلي، مع التركيز على أمر مهم جداً بالنسبة إلى المانحين، وهو مكافحة الفساد، التي هي صعوبة أخرى يواجهها البلد».

ونقل دوكان عن الحريري نيته ونية الحكومة «المضي قدماً وسريعاً في مختلف المجالات». وإذ رأى انّ «هذه ليست مهمة سهلة»، قال: «لدينا حكومة عمل، وطبقة سياسية توحدت حول هذا البيان الوزاري، والمانحون سيكونون متيقظين لكل ما سيتم القيام به، وهم لا يريدون سوى إقناعهم بحسن سير الأمور، ولا بد من فعل ذلك».

وبعد لقائه وزير المال قال دوكان: «انّ الحكومة الحالية ليست لديها رفاهية الانتظار بل يجب أن تجري الأمور بشكل سريع». وشدد على ضرورة تقديم موازنة 2019 سريعاً، معتبراً أنّ «على الموازنة أن تلحظ خفض العجز (وفقاً لما هو وارد في البيان الوزاري) بما لا يقل عن واحد في المئة من إجمالي الناتج المحلي».

وكرر دوكان امام وزير البيئة أن «ليس لدينا ترف الوقت بعد التأخر في تشكيل الحكومة»، وأبدى «كل الاستعداد لدعم خطة معالجة النفايات».

أجواء غير مشجعة

الى ذلك قالت مصادر مطّلعة لـ«الجمهورية» انّ لقاءات دوكان عكست أجواء غير مشجعة. واوضحت انّ الرجل لم يكن مرتاحاً الى ما سمعه من الجهات االلبنانية المعنية بـ«سيدر» وانّ المقاربات التي سمعها من بعض هذه الجهات نمّت عن عدم إلمام جدي بملف «سيدر»، وغارقة في عناوين شكلية تفتقر إلى توضيح حول سبل ترجمتها، وهو أمر أثار تساؤلات لدى الوفد الفرنسي.

وأشارت المصادر إلى «أنّ المحادثات التي اجراها دوكان كشفت عن واقع لبناني مرير ومثقل بأزمات شديدة الصعوبة تبعث على الخشية، وربما أكثر من الخشية، من أن لا يتمكن لبنان من الإيفاء بالالتزامات التي قطعها على نفسه ربطاً بالاصلاحات التي يفرضها «سيدر» عليه وتشكّل الممر الإلزامي للبنان لكي يعبر نحو الاستفادة من تقديمات «سيدر» وتحقيق الأحلام الوردية التي عليها.

وكشفت المصادر أنّ اللقاءات مع دوكان «عكست بعض الارتباك في الموقف اللبناني لعدم امتلاكه خريطة طريق واضحة لطريقة الإفادة من تقديمات سيدر، ولا حول طريقة إجراء الإصلاحات ولا حتى في تحديد الاولويات، وبَدت الهوة عميقة بين ما يطرحه دوكان لجهة الاستعجال في وضع مقررات «سيدر» قيد التنفيذ، وتحديداً لجهة إجراء الإصلاحات المطلوبة على وجه السرعة، وبين موقف لبنان غير القادر على القيام بها، نظراً لأزماته المتشعبة وحساسية وضعه السياسي والاقتصادي والمالي الذي يدفع إلى التشكيك في حصول لبنان على ما يريد من «سيدر».

وفي هذا السياق قالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» انّ «دوكان متمكن جداً من الملف الذي يتولى متابعته، خلافاً لحالنا المتخبطة، فنتائج الاتصالات كما وردتني جعلتني أشعر التشاؤم وعدم الاطمئنان».

إلى ذلك، ترددت معلومات حول لقاء عقده دوكان مساء في منزل السفير الفرنسي مع سفراء الدول المانحة وممثلي الصناديق العربية والدولية المعنية بمؤتمر «سيدر»، ورشح انّ أجواء ما تم التشاور فيه لم تكن مشجعة.

واللافت في هذا السياق، ما كشفته مصادر وزارية لـ«الجمهورية، من أنّ خلاصة المحادثات مع دوكان أظهرت انه كان مستاء وكَوّن انطباعاً سلبياً عن توجّه لبنان حيال «سيدر»، إلى حد أنه نسبت إليه اشارته الى انّ «اللبنانيين غير جديين».

وفي هذا السياق، قال احد الوزراء لـ«الجمهورية»: «كان دوكان مستاء من عدم الجدية التي لمسها، وكذلك من عدم قدرة لبنان على الوفاء بما وعد به من إصلاحات والتزامات. من هنا الوضع صعب، إجراء إصلاحات سريعة مستحيل، وإجراء إصلاحات موجعة هو أمر أكبر من مستحيل نظراً الى التعقيدات السياسية والإدارية والطائفية، والوظيفية بشقيها المدني والعسكري. وكذلك، وهنا الاساس، كيف يمكن أن تجرى إصلاحات في دولة مفلسة؟ اكثر من ذلك المطلوب إجراء إصلاحات في غضون شهرين او ثلاثة على الاكثر، هذا إذا بدأ العمل غداً، فيما الواقع اللبناني ليس قادراً على ان يخطو ولو خطوة واحدة في هذا الاتجاه قبل أقل من سنة».

«القوات» والفساد

وفي انتظار انتخاب اعضاء المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وإزاء فتح الحسابات المالية للدولة، قالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: «انّ مكافحة الفساد عمل يومي ولا ترتبط بملف محدد يجب على قوة سياسية معينة أن تواجهه، فهذه ليست مكافحة فساد بل استهداف لفريق سياسي تحت عنوان سياسي ما. مكافحة الفساد عمل يومي ومتابعة يومية ونضال يومي من خلال مواكبة حثيثة لكل الملفات، ومثالاً على ذلك ما حصل في جلسة مجلس الوزراء الاخيرة حين عارض «التيار الوطني الحر» و«القوات» إعطاء «الدرجات الست»، ففي الحد الادنى كان يفترض بـ«حزب الله» الذي يتحدث صباحاً ومساء عن مكافحة الفساد ان يكون الى جانب «التيار» و«القوات» برفضه التصويت مع إعطاء الدرجات الست لأنّ إقرارها يخالف قرار مجلس شورى الدولة ومجلس الخدمة المدنية اللذين أكدا عدم جواز ذلك لتشكيله مخالفة كونه يعطي البعض وليس الجميع، ويضرب الخزينة العامة في لحظة يدرك الجميع الأزمة التي يمر بها البلد على مستوى التمويل وقد تحفّظنا في حينه على إقرار السلسلة، وبالتالي فإنّ أداء «حزب الله» عند أول اختبار في مجلس الوزراء لم يكن في الشكل المطلوب، فـ«تقطيعه» المسألة على هذا النحو يدل الى عدم جديته في مكافحة الفساد.

لذلك نعتبر انّ مكافحة الفساد لا تكون فقط بالتركيز على مرحلة معينة بل مواجهة يومية في مسائل معينة، فضلاً عن أنّ التركيز على مرحلة يطرح تساؤلات عن الخلفيات. فما يفيد هو متابعة حثيثة لكل الملفات على طاولة مجلس الوزراء كما فعلت «القوات» في ملف الكهرباء، ومواجهة الفساد تكون بعمل يومي مُضن في كل المجالات وليس فقط من خلال التصويب على اتجاه معين.

وهذا ما تقوم به «القوات» وتصرّ على القيام به داخل مجلس الوزراء وستشكل رأس حربة فيه، ولن تقف مع أي بند ينعكس سلباً على المالية العامة وعلى خزينة الدولة ويؤثر على الاقتصاد. تقاطعنا مع «التيار» هذه المرة وأثبتنا أن لا مشكلة لنا معه، فعندما لا نتفق فلأنّ لدينا رؤية لطريقة ادارة الشأن العام وطريقة تنفيذه، ونتفق عندما تكون نظرتنا موحدة حيال مسائل تتعلق بالمصلحة الوطنية العامة والمصلحة المالية العامة، ونأمل في أن يستمر ما جرى أمس في الاتجاهات نفسها بملفات أخرى في المستقبل من أجل مكافحة الفساد وبناء الدولة».

الـ11 ملياراً

وكان السنيورة فَنّد أمس وبالارقام كيف صرف مبلغ الاحد عشر مليار دولار، وأعلن انّ حكومته عام 2006 أحالت مشروع قانون الى مجلس النواب لإخضاع كل حسابات المالية العامة والمؤسسات الى الرقابة مع الابقاء على دور ديوان المحاسبة. وأشار الى انّ هذا المشروع بقي في ادراج المجلس النيابي.

واعتبر انّ ما يحصل الآن يذكّره بـ«فضيحة برج حمود» التي أثيرت قبل 20 عاماً وكان الوحيد الذي وقف ضدها في الحكومة والمجلس النيابي، مشيراً الى انه يستشعر أنّ هناك من يعدّ لمسرحيات ولتهم باطلة من خلال قضية الـ 11 مليار دولار.

وشدد على «أنّ الارقام تدحض الاوهام، وانّ هذه القضية عاصفة في فنجان».

وأوضح «أنّ إعادة العمل وفقاً للقاعدة الاثني عشرية هو من قبيل الهرطقة المالية والقانونية والسياسية»، مؤكداً «أنّ هذا الإنفاق الذي تم أكان من اعتمادات الموازنة او الخزينة لم يكن إنفاقاً مخالفاً للقانون، بل كان قانونياً كامل الاوصاف».