واضحٌ أنّ الوعود التي راكمها أهل الحكومة عشية انطلاقتها، وتبشيرهم بسعيهم الحثيث الى فرض أمر واقع لبناني نظيف ينقل البلد، نحو مستقبل زاهر محرّر من الفساد والفاسدين والمفسدين، قد ذهبت مع الرياح السياسية التي عصفت بالحكومة في اولى جلساتها.

وهو الامر الذي يحيط الواقع الحكومي بعلامات استفهام حول مستقبل هذه الحكومة وكيفية مقاربتها سائر الملفات المتراكمة، التي لا تقلّ حساسية عن ملف النازحين، وخصوصاً تلك التي احيطت في الزمن الحكومي السابق بثنائيات وصفقات.

لا تشاؤم

على انّ الصورة التي تبدّت في الساعات الماضية، أظهرت سعياً لدى المستويات الرفيعة في البلد لاحتواء أجواء الجلسة العاصفة للحكومة، واعتبار ما جرى نقاش بين آراء هي مختلفة أصلاً سواء حول العلاقة مع سوريا، او حول ملف النازحين وكيفية مقاربته.

وفي هذا السياق، اكّد مطلعون على اجواء قصر بعبدا لـ«الجمهورية» «أنّ من الخطأ أن يذهب البعض الى ابداء التشاؤم حيال مستقبل العمل الحكومي في المرحلة المقبلة، خصوصاً وانّ لدى الحكومة أجندة عمل مطلوبة منها بإلحاح لمقاربة كل الملفات الحيوية، وهو ما اكّدت عليه الحكومة في بيانها الوزاري الذي عنونته بالسعي الى العمل المنتج، وهذا ما هو مطلوب منها. وسبق لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون ان وضع الحكومة الجديدة امام مسؤولياتها الجسام في مرحلة حساسة، ومهمتها الاساس في قيادة السفينة لإخراج البلد من أزماته ووضعه على سكة الانتعاش.

العدو الواحد

تتقاطع هذه الاجواء، مع تأكيد رئيس مجلس النواب نبيه بري لـ«الجمهورية» على انّ الحكومة محكومة بالعمل، متجنّباً الحديث عن الجو العاصف الذي ساد في مجلس الوزراء. الا انّه قال: «موضوع النازحين يجب ان يُعالج في منتهى السرعة، وموقفنا معروف حول كيفية المعالجة. لكن في الملف الحكومي، فإنّ الحكومة لا تستطيع الّا ان تعمل، ويجب عليها ان تعمل، خصوصا وانها لا تستطيع ان تتجاوز او تتجاهل قاعدة العمل التي بنتها مناقشات النواب في جلسة الثقة، وركّزت على عدو واحد للبنان وهو الفساد، الذي عليها ان تسلك الطريق السريع وكفريق عمل واحد نحو الخلاص منه من دون اي تأخير او إبطاء».

وفي السياق نفسه، شدّد بري خلال استقباله المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار، على انّ مجلس النواب ملتزم بما بدأه مع جلسة الثقة بالإصلاح ومكافحة الفساد، وعقد الجلسات الرقابية شهرياً. واكّد على اهمية ان تكون مشاريع ومساهمات البنك الدولي ذات جدوى وأهمية عالية لحاجات لبنان، فلا مجال للترف في اي بند.

خريطة الطريق

وفي المنحى ذاته، يصبّ موقف رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي تؤكّد اوساط قريبة منه لـ«الجمهورية» بأنّ الحكومة ستمضي وفق خريطة الطريق، التي رسمها بيانها الوزاري، لمقاربة مختلف الملفات الحيوية التي ينتظرها المواطن اللبناني.

وفي هذا السياق تحدثت المصادر عن توجّه جدّي لعمل حكومي كثيف خلال المرحلة المقبلة، يتواكب مع إعداد سريع لموازنة العام 2019، ومع التحضيرات التي يجري استكمالها لملاقاة تقديمات مؤتمر «سيدر» في فترة زمنية قريبة.

سهام انتقادية

على انّ هذه الصورة الرئاسية، التي تحاول إحاطة الحكومة بزنار أمان من قبل الرؤساء الثلاثة، تتوازى مع صورة مناقضة، عكست مشهداً سياسياً هشّاً، بدا مكهرباً في مختلف مفاصله، على نحو قدّم صوراً اشتباكية على اكثر من محور، تمّ خلالها تبادل سهام سياسية حادّة بين «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية»، الذي حمّل «التيار» مسؤولية الفوضى التي نشهدها اليوم في ملف النازحين.

واعتبرت «القوات» انّ «عودة النازحين من مسؤولية الحكومة مجتمعة، والمطلوب الفصل التام ما بين عودة النازحين اليوم قبل غد، وما بين الحرتقات السياسية لبعض القوى، التي تنعكس سلباً على هذا الملف وعلى الاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي».

فيما ردّ «التيار» عبر اللجنة المركزية للاعلام، ببيان قالت فيه: «نكتفي بالقول المأثور «إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا»... بموضوع النازحين و«داعش» و«النصرة» وغيره وغيره.

وفي الوقت نفسه، برزت التغريدات الهجومية بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل». وما لفت في هذا السياق، هو مبادرة «المستقبل» الى إطلاق سهم في اتجاه بعبدا، بدا رداً على قول رئيس الجمهورية بـ«أنه يعرف مصلحة لبنان العليا وهو يحددها»، وورد هذا السهم في تغريدة للنائب محمد الحجار قال فيها: «ربما من المفيد التذكير بنص المادة 64 المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 1990/9/21 «رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء».

بعبدا ترد

في المقابل، رفضت مصادر وزارية مقرّبة من بعبدا عبر «الجمهورية» ان تكون هناك مواجهة بين قصر بعبدا وبيت الوسط حول الصلاحيات، وقالت: «انّ رئيس الجمهورية قام بواجبه في مداخلاته في مجلس الوزراء، وانّ مجرّد العودة الى المادتين 49 و50 من الدستور يسهّل الأمور. فهو الوحيد الذي اقسم على الدستور ولا تنتقص من صلاحيات أحد ولا رغبة بتجاوز صلاحيات احد. فهو مارس صلاحياته من خلفية وطنية تجاه قضية وجودية لا تتصل بموضوع النأي بالنفس، والتي تعني بالنسبة اليه عدم التدخّل في الشؤون السورية الداخلية او اي دولة أخرى ونصرة فريق على آخر».

أضافت: «اما الموضوع المطروح الآن فهو يتصل بمصلحة وطنية لبنانية متعلقة بمصير عدد كبير جداً من النازحين (معلومات أمنية تفيد انّ عدد النازحين في لبنان بلغ مليونين و285 الف نازح) وقد بلغت تردداتها المدى الخطير، فهم يتشاركون في ارض ومياه وكهرباء وعمل اللبنانيين، في بلد بلغت نسبة البطالة فيه اكثر من 43%، ومن الواجب ان يعودوا الى ارضهم التي باتت آمنة ولم تعد هناك سوى جيوب صغيرة على الحدود السورية - التركية، وانّ المساعدات التي تقدّمها الجهات الدولية يمكن ان توفرها لهم حيث يكونون».

وأضافت المصادر: «الموضوع لا يتصل بصلاحيات احد، وانّ البحث مع السوريين لا يتعدى قضية عودة النازحين، ولا نناقش معهم في اي ملف آخر لا بسلطة الرئيس الأسد او بالمعارضة، فهي من الشؤون الداخلية السورية التي لا تعنينا. وانّ السوريين وعدوا بالمساعدة ولن يوفروا جهداً في ذلك».

وانتهت المصادر الى التحذير، من انّ اي محاولة لحرف الموضوع عن هدفه لن تلقى النتيجة التي يريدها أصحابها وهي خطوة غير مقبولة.

الراعي يدعم عون

الى ذلك، كان اللافت، ووسط الانقسام الحاصل حول موقف رئيس الجمهورية من النازحين، زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى القصر الجمهوري امس، وإشادته بموقف عون في مجلس الوزراء واصفاً اياه بـ«المشرّف».

وقال الراعي: «اذا لم يكن رئيس الجمهورية هو من يحمي الدستور، اي الشعب والمؤسسات والكيان والدولة، فلا احد غيره باستطاعته ذلك»، مشيراً الى «انّ المادة 49 من الدستور واضحة، ولطالما كنّا نردد انّ رئيس الجمهورية يقسم يمين المحافظة على الدستور وسيادة الوطن ووحدة الشعب وشؤون الدولة اللبنانية، ولم توضع له لا شروط ولا اي قيد مع احد. وهو لم يعتدِ على احد».

هزّات وارتدادات

هذا التوتر السياسي، الذي تبدّى في الساعات الماضية، توازى مع هزّات ارتدادية متتالية لقرار المجلس الدستوري بإبطال نيابة (نائبة المستقبل) ديما جمالي، ولوحظ في هذا الاطار انّ هذا المجلس سعى عبر رئيسه عصام سليمان الى رفع تهمة التسييس عن القرار الذي اتخذه، وكذلك فعل امين سر المجلس احمد تقي الدين بنفي اي مداخلات معه.

الّا انّ ذلك لم يغيّر ما يتم تداوله داخل الصالونات السياسية، وخصوصاً تلك المتصلة بتيار «المستقبل»، حيث تصاعد حديث بصوت مرتفع عن انّ قرار المجلس الدستوري يستبطن محاولة واضحة لاستهداف رئيس الحكومة. واقترن هذا الحديث بإطلاق سهام اتهامية في اتجاه مستويات رفيعة المستوى في الدولة شاركت في ما تعتبره تلك الصالونات «الغدر برئيس الحكومة».

يأتي ذلك بالتزامن مع ما تردّد عن تواصل غير مُعلن حول هذا الموضوع حصل في الساعات الماضية بين بيت الوسط وقصر بعبدا وبين بيت الوسط وعين التينة. فيما اكّدت مصادر مؤيّدة للحريري لـ«الجمهورية»: «انّ المجلس الدستوري ما كان يجرؤ على اتخاذ مثل هذا «القرار المسيّس» لو لم يكن مغطى بقرار كبير».

وهو الأمر الذي لم تستطع مصادر سياسية ان تؤكّده او تنفيه. الّا انّها اشارت في الوقت نفسه الى انّ التسييس اذا كان موجوداً في إبطال نيابة جمالي، فيمكن القول انّه موجود ايضاً في عدم اعلان فوز المرشح الطاعن طه ناجي. وعدم الاعلان هذا يشكّل بشكل او بآخر نافذة لعودة جمالي الى النيابة في الانتخابات التي اكّد عليها المجلس الدستوري خلال شهرين من تاريخ صدور القرار.

الدورة الاستثنائية

في السياق التفعيلي للعمل المجلسي، صدر امس، مرسوم فتح دورة استثنائية لمجلس النواب تمتد حتى 18 آذار المقبل، لدراسة وإقرار المشاريع والاقتراحات النيابية التي تُطرح على المجلس، وهو اجراء من شأنه ان يمهّد لعقد جلسة تشريعية في وقت قريب على ما قال الرئيس بري لـ«الجمهورية»، يصار فيها الى اقرار الاجازة للحكومة الصرف على القاعدة الاثني عشرية الى حين اقرار موازنة العام 2019.

القوانين المعطلة

اما في السياق المواكب لعمل الحكومة، فقد علمت «الجمهورية» انّ تحضيرات بدأت منذ الآن للقيام بتحرّك نيابي في اتجاه الحكومة والمراجع الكبرى في الدولة، بهدف وضع القوانين الـ39 المعطلة منذ سنوات طويلة، موضع التنفيذ واستعجال اصدار المراسيم التطبيقية لها.

وبحسب المعلومات، انّ النائب ياسين جابر، بوصفه رئيس اللجنة النيابية التي شكّلها رئيس المجلس النيابي لمتابعة التنفيذ، سيقود هذا التحرّك، الذي قد يُستهل بطلب مواعيد مستعجلة مع الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري.

وقال جابر لـ«الجمهورية»: «كلما طال امد تعطيل هذه القوانين زادت الاعباء اكثر، ودخلنا في تعقيدات اضافية. سنقوم بهذا التحرّك، ونحن متفائلون تبعاً لما سمعناه من الحكومة وكذلك من مختلف النواب، سواء حول تطبيق هذه القوانين او حول مكافحة الفساد. علماً انّ وضع هذه القوانين المعطلة يساهم في ربحنا للحرب على الفساد، ويؤدي الى دخول لبنان مرحلة الاصلاح والانتعاش».