جل ما يتمناه المحللون الذين أطلقوا العنان لسيل من الأفكار حول العالم وفي أميركا، عمن سيملأ الفراغ بانسحاب القوات الأميركية في شمال شرق سورية، أن لا تكون توقعاتهم وأسئلتهم والجهد الذهني الذي بذلوه في طرح السؤال والإجابة عليه، قد ذهب هدراً.

بعد إعلان دونالد ترامب ليل أول من أمس أن الانسحاب سيكون بطيئا من دون تحديد سقف زمني له، مع تأكيده أنه ينوي حماية الأكراد الذين تحالف معهم ودربتهم قواته، بدا أن الشكوك الروسية حول نيته سحب قواته صدقت. فموسكو باتت متمرسة في التعاطي مع المواقف والتصريحات «المتطايرة» (volatile) للرئيس الأميركي الذي يدير السياسة الخارجية، وحتى العسكرية، لبلاده عبر «تويتر»، من شدة ما خذلها في السابق على رغم استمرار مراهنتها على الاتفاق معه لأنه الأكثر ملاءمة بين الرؤساء الأميركيين بالنسبة إلى تقاسم النفوذ معها على امتداد العالم. وسواء صح ذلك أم لا، وسواء صدقت التقديرات بأن يأتي الانسحاب الأميركي من ضمن توجه لإغراق روسيا أكثر في الوحول السورية أو كذبت، وسواء تحقق ما يأمله الذين يزينون قرارات ترامب بأنه يتموضع في إطار سياسته الضغط على إيران في سورية ودفع موسكو إلى خفض دور «الحرس الثوري» فيها... بإطلاق يد إسرائيل أكثر على ساحتها... فإن العارفين بالاتفاقات الأميركية - الروسية يتحدثون عن دور قمة هلسنكي في 16 تموز (يوليو) الماضي بين ترامب وفلاديمير بوتين في الخطوات التي أقدم عليها الأول أخيراً. في ذلك اللقاء زيّن القيصر الروسي لتاجر العقارات أن الوجود الروسي في سورية شرعي بناء لطلب الحكومة بينما وجود القوات الأميركية غير ذلك. وفي المقابل الوجود الأميركي في العراق شرعي، وأنهما بإمكانهما التعاون انطلاقا من هذه المعادلة من أجل إعادة الاستقرار في سورية وخفض الوجود الإيراني فيها، وضمان القضاء على «داعش» والحيلولة دون عودة مقاتليه للتمركز في أي من البلدين على رغم أن الروس والأميركيين كانوا تسابقوا على إعلان الانتصار على «الدولة الإسلامية» في كانون الأول (ديسمبر) 2017 في العراق وفي سورية.

لم يفعل بوتين سوى تلقف تصريحات ترامب منذ نهاية آذار(مارس) وبداية نيسان (أبريل)، قبل 3 أشهر من لقائه بوتين، عن قرب انسحابه من بلاد الشام، الذي عاد وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس فأخّره.

يستخدم بوتين الإغراء نفسه مع ترامب وعدد من الدول العربية في سورية. فبموازاة دعوته إلى انسحاب كافة القوات الأجنبية، (التي أخذ يشدد عليها بعد قمة هلسنكي) وهو يعني فيها الإيرانية و»حزب الله»، إضافة إلى القوات الأميركية، فإن فشله في ضمان الانكفاء الإيراني، وحتى الابتعاد عن خط الجولان 100 كيلومتر ضماناً لأمن إسرائيل، جعله يعود إلى التركيز على الانسحاب الأميركي كمقدمة لمطالبة طهران بخفض عديد قواتها. مع العرب سعى إلى تشجيعهم على العودة إلى دمشق بحجة أن الاقتراب من بشار الأسد يدفعه إلى الابتعاد تدريجا مسافة ما عن إيران. يستثمر الكرملين إدارته اللعبة في الميدان السوري إلى درجة أنه يساهم في تنظيم الانكفاء الأميركي منه، ويسعى إلى ملء الفراغ الذي سينجم عنه تارة بقوات النظام، الذي يحشد منذ أشهر على مقربة من شرق الفرات والشمال، وأخرى عن طريق فتح قنوات التواصل بين موسكو وبين الأكراد لطمأنتهم، وثالثة بدعوة أنقرة إلى إبطاء هجومها على المناطق الشمالية التي تتواجد فيها القوات الكردية المدعومة أميركيا.

السؤال الذي يفتقد إلى إجابة واضحة هو هل أن واشنطن (وربما موسكو أيضا) تريد للعودة الديبلوماسية العربية إلى دمشق أن تقترن بعودة عسكرية على الأرض أيضا، لتستند الدول العربية القادمة إلى عاصمة الأمويين بعد عداء مع نظامها على مدى أكثر من 7 سنوات، إلى وجود عسكري أسوة بالوجود الإيراني؟ وهل صحيح ما ذكرته معلومات عن قيام ضباط من دولتين عربيتين تنفتحان على دمشق، بتفقد منطقة منبج تمهيداً لإرسال قوات من هاتين الدولتين للحلول مكان القوات الأميركية حين تنسحب، بحيث يشكل الوجود العسكري العربي مخرجا من المواجهة الكردية التركية؟

إذا كان يصعب الاعتقاد بأن الاننسحاب الأميركي هو ترك الساحة للغير من دون ضمان ملء الفراغ، ومثلما أن واشنطن أكدت خلال لقاء جورج بومبيو مع بنيامين نتانياهو على تعزيز التعاون الأميركي الإسرائيلي في سورية، وهو أمر يتم في الجنوب والوسط مع تقاسم روسي كامل للأجواء مع الطيران الإسرائيلي، فإن للشمال الشرقي السوري آليته المعقدة مع الوجود العسكري التركي.

العودة العربية على إيقاع بطء الانسحاب الأميركي وخطط التوضع الإقليمي، لها حديث يطول.