سنوات عجاف ترتسم بالنسبة للفكرة الأوروبية التي تتعرض لتسونامي الصعود الشعبوي والهوياتي، وكذلك لإمكانية انعكاس الأزمات الداخلية والتفاوت الاجتماعي الحاد على ديمومة الاتحاد الأوروبي بحد ذاته.
 

تهبّ على أوروبا عواصف سياسية متلاحقة تنذر بالمزيد من الاضطراب وتذكّر بمرحلة ما بين الحربين العالميتين ومآلاتها المعروفة. وفِي هذا الوقت تبدو إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مغتبطة بهذا التفكك الذي تراهن عليه كي يتم تطويع الحلفاء تحت راية واشنطن. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بدأ منذ العام 2008 التقدم في الجوار الروسي، فيرمق الاتحاد الأوروبي لجذب بعضه مراهنا على شعبويين ووطنيين أكثر حماسا للتعاطي مع موسكو. أما الصين البعيدة فتخترق الاتحاد الأوروبي من شرقه إلى البرتغال تحت يافطة “طرق الحرير الجديدة”.

إنه نوع من دومينو عالمي جديد تصبح فيه أوروبا الحلقة الأضعف ضمن التوازنات الدولية، والقطب الخاسر ضمن نظام دولي متعدد الأقطاب يمكن أن ينبثق يوما من رحم مرحلة التخبط الحالية والفوضى الاستراتيجية التي تسودها في عالم من دون قواعد حوكمة وفِي أوروبا من دون ربان في غياب الشخصيات الكاريزمية.

وقد برزت في الأيام الأخيرة أزمات حادة طالت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الدول الرئيسية في الغرب الأوروبي. واتضح كم أن البريكست الذي هزّ الاتحاد الأوروبي يهزّ اليوم أكثر المشهد الداخلي البريطاني، وتبيّن أن الطموح الأوروبي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخذ يتبدد تحت وطأة حركة “السترات الصفراء”. ومع تعيين خليفتها على رأس الحزب الديمقراطي المسيحي أخذ يخبو نجم أنجيلا ميركل التي رافقت صعود وانتكاس الاتحاد الأوروبي.

وبالإضافة إلى هذا الاهتزاز الداخلي يبدو الاتحاد قطبا محاصرا بين كماشة أحادية دونالد ترامب واختراق فلاديمير بوتين. وهكذا ترتسم سنوات عجاف بالنسبة للفكرة الأوروبية التي تتعرض لتسونامي الصعود الشعبوي والهوياتي، وكذلك لإمكانية انعكاس الأزمات الداخلية والتفاوت الاجتماعي الحاد على ديمومة الاتحاد الأوروبي بحد ذاته إذا لم ينبثق مشروع استنهاض ينقذ الاتحاد من كبوته.

في بدايات القرن الحادي والعشرين كان الاتحاد الأوروبي يعتبر نموذجا للرخاء الاقتصادي والاندماج وواحة سلام بعدما حفل القرنان السابقان بحروب إقليمية وعالمية دامية. وكان اليورو العملة الموحدة من التجارب النادرة في التاريخ. لكن منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بدأ خط تراجعي في مسار العمل الأوروبي المشترك وصل إلى البريكست في 2016. ومما لا شك فيه أن الذي ساعد، أو دفع، إلى بلورة هذا الواقع مناخات الفوضى الاستراتيجية في العالم وفي القلب منها انعكاسات الصعود الروسي وأزمات اللجوء والهجرة والأحادية الترامبية.

وأدى هذا الوضع إلى تراجع الفكرة الأوروبية وصعود قوى شعبوية من خارج المؤسسات في عدة دول منها إيطاليا والنمسا والمجر وتشيكيا وبولندا، مع ما يعني ذلك من تهديد لكل المشروع الأوروبي خاصة أن قوى مماثلة من أقصى اليمين والشعبويين تسجل حضورا أكبر من ألمانيا إلى هولندا وفرنسا وغيرها، وستكون لحظة انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019 اختبارا حقيقيا يضع الاتحاد الأوروبي على المحك.

ولذا يأتي حراك “السترات الصفراء” في وقت غير مناسب للمشروع الأوروبي، إذ لا يعني رفضا لخطوات ماكرون الإصلاحية في الداخل فحسب، بل يشكل كذلك تعطيلا أو إعاقة لاندفاع ماكرون الأوروبي.

في الأسابيع الأخيرة بدا المشهد الأوروبي مربكا، وأخذت أوروبا تتحول من الواحة الأكثر استقرارا في العالم إلى موجة احتجاج عارم في فرنسا، وحقبة ميركل التي أخذت تنتهي، وإيطاليا التي تلعب لعبة خطرة مع الاتحاد الأوروبي. بينما تقوم روسيا بمواجهة أوكرانيا، وتخرج بريطانيا من الاتحاد الذي يستنزفه الصعود الشعبوي الرافض له.

وكما حالة الرئيس إيمانويل ماكرون الدقيقة، يعاني أنصار الفكرة الأوروبية بين مطرقة الشعوبية اليمينية الخائفة على المستقبل الثقافي والديموغرافي تحت ستار حفظ الهوية في مواجهة الآخرين (ومنهم المهاجرون من جنوب المتوسط وأفريقيا والمنتسبون للديانات والثقافات الأخرى) وسندان اليسارية الشعوبية القلقة من المستقبل الاجتماعي والاقتصادي.

وما يثبت المنعطف الحرج للاتحاد الأوروبي مدى تربص دونالد ترامب الذي لم يخف إرادته النيل من الاتحاد الأوروبي في ظل التنافسية المحمومة لعولمة تتصدّع، أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فتبيّن نشاطات أنصاره على وسائل التواصل الاجتماعي الرغبة الروسية في تفتيت الوحدة الأوروبية لصالح شعبويين ووطنيين يسهل على روسيا التعامل معهم.

بالرغم من كل الاستهداف الدولي (بعضه مشروع في سياق حروب الإرادات والصراعات الاقتصادية) يبقى العاملان الداخلي والأوروبي هما العاملان الأساسيان في نكسة الاتحاد الأوروبي.

وكان من اللافت أن الرئيس إيمانويل ماكرون، الأوروبي الهوى، امتنع عن التطرق إلى مشروعه الأوروبي في خطاب الـ13 دقيقة الموجه إلى الشعب الفرنسي في الأسبوع الماضي بهدف الرد على التمرد الاحتجاجي، وتفسير ذلك يكمن في أن إجراءات ماكرون لامتصاص الغضب والتي تكلّف حوالي عشرة مليارات يورو تعني عدم قدرة باريس على احترام السقف الذي وضعته المفوضية الأوروبية في بروكسل، حيث لا يسمح بزيادة العجز في الميزانية الداخلية 3 بالمئة من الناتج القومي.

وأبعد من ذلك يقوض هذا الخرق الفرنسي مشروع الرئيس ماكرون الذي كان يدافع عن فكرة إنشاء ميزانية خاصة لمنطقة اليورو في سياق مشروعه الأوروبي المترنّح. ومن ناحية أشمل يتوجب بشكل ملح على الاتحاد الأوروبي أن يحاول ولو بشكل جزئي الرد على تناقض مؤذ بين سوق أوروبية داخلية وحدود مفتوحة مع استمرار اقتصاديات وقدرات شرائية متفاوتة ومتنوعة تحت هذا السقف. وكل هذا يقلل من شعبية الفكرة الأوروبية الملازمة للتقشف أو البطالة عند فئات واسعة من دون نكران دورها في الاستقرار والازدهار في آن معا.

اعتقد البعض في أوروبا باستتباب الأمور ونهاية التاريخ عند نهاية الحرب الباردة وداعبهم الوهم بأن الوحدة الاقتصادية وتوسيع الاتحاد ليصبح أقرب إلى أمم متحدة مصغرة مع بعض البعدين السياسي والعسكري كفيلان بتحصين القارة العجوز من أنواء التحولات العالمية. ولهذا لم تجد فكرة إيمانويل ماكرون عن “الجيش الأوروبي” التجاوب المطلوب من الشريك الألماني في المقام الأول، إذ صدرت أصوات من برلين للمطالبة بتقاسم فرنسا مع الاتحاد الأوروبي مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، وإعادة النظر في ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا فإن خطوة ماكرون من أجل الاستقلالية الاستراتيجية سقطت ليس بسبب إدانة ترامب لها فحسب، بل نظرا لتأرجح المحور الفرنسي – الألماني الأساسي في البناء الأوروبي ولأن الإرادة السياسية غير متوفرة لتحويل أوروبا إلى قطب سياسي وعسكري يدافع عن تقدمها الاقتصادي ودورها الجيوسياسي.

ستكون انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019 امتحانا لقدرة التيارات الشعبوية والمتشددة على تقويض الفكرة الأوروبية. وخلال السنوات القادمة سيتبيّن ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيتجاوز التهديد المصيري الذي يواجهه ويتحول إلى مجرد سوق مشتركة وقطب تجاري، أم سيجد في الاتحاد وتجديده خير كيان في مواجهة القوميات المستيقظة والشعبويات الصاعدة والقوى العالمية الأخرى المتربّصة.