لربّما استخدم عالِم في الصين وسيلةً قويةً للتعديل الجينيّ بغرض قصّ الجينات غير المرغوب بها من المضغة البشريّة، مُشكّلًا بذلك أوّل أفراد بشريّة معدّلين جينيًّا، الأمر الذي قد يجعل من مستقبلٍ بائسٍ -يخشى منه الكثيرون- أقربَ بخطوة.
 
ادّعى العالم ’’هي جيانكوي‘‘ في فيديو نشره يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني أنّه استخدم تقنية كريسبر-كاس9 -وهي أداة أو وسيلة للتعديل الجينيّ والتي أحدثت ثورةً في مجال علم الوراثة في العقد الماضي- لحذف مورّثة من مضغةٍ بشريّةٍ بغية جعل الأطفال المولودين بها مقاومين لفيروس الإيدز (HIV).
 
وقد ذكر في الفيديو أنّ هذه المُضغ قد تنامت إلى طفلين سليمَين: توأمٌ اسمهما لولو ونانا.
 
كما قال في الفيديو: «أتى الطفلان منذ بضعة أسابيع إلى العالم باكيان وبصحةٍ جيّدةٍ كباقي الأطفال الآخرين».
 
 
 
لم يتمّ التحقّق من ادّعاء العالِم -وفي الواقع- نفت المستشفى المذكورة في وثائق الموافقة الأخلاقيّة، أيّ تورّطٍ في هذا الإجراء -بحسب تقارير (CNN)- إلا أنّ ردّ فعل المجتمع العلميّ تجاه ادّعاء العالِم تجلّى بالغضب والقلق، وِفقًا للتقارير الإخباريّة.
 
في الواقع، حتّى بوضع المُعضلات الأخلاقيّة -باستخدام أكثر من تقنيةٍ للتلاعب بالجينات البشريّة- جانبًا، يؤمن العديد من العلماء أنّ لمثل هذه التعديلات مشاكل صحيّة بعيدة المدى وغير متوقّعة.
 
يقول مظهر عدلي، عالِم وراثةٍ في كليّة الطّب في جامعة فيرجينيا لموقع “Live Science”: «إنّه لأمرٌ صحيح أنّ التعديلات التي تمّت على المضغة ستمنع الإصابة بالعوز المناعيّ البشريّ.
 
ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ الجينة المحذوفة -والتي تدعى (CCR5)- تمتلك وظائف أخرى بالإضافة إلى منعها الإصابة بالإيدز، والتي تشمل تدخّلها في حسن أداء الكُريات البيضاء.»
 
كما يقول فينغ تشانغ -أحد العلماء الرائدين في استخدام تقنية كريسبر للتعديل الجينيّ- في بيانٍ صدر ردًّا على هذه الأخبار: «قد تلعب المورثة دورًا في المساهمة بمنع الإصابة بفيروس (غَربِ النيل – (West Nile virus، وبالتالي عند قصّها من الجينوم يُرجِّح أنّ الفرد سيكون أكثر عرضةً للمرض.»
 
 
 
علاوةً على ذلك، فإنّ الجينات لا تتواجد منفردةً، فهي تتداخل دومًا مع جيناتٍ أخرى، الأمر الذي قد يحمل تأثيرات عظمى على العضويّة.
 
يقول عدلي: «إنّ حذف جينة واحدة لن يغيّر آلية عمل الجينات الأخرى فحسب، وإنّما قد يغيّر سلوك الخليّة ككل والنمط الظاهريّ للعضويّة».
 
حيث أنّ النمط الظاهريّ هو الخصائص الملحوظة أو العيانيّة، مثل لون العينين الذي يرتكز على النمط الوراثيّ للشخص أو المورّثات التي تشفّر ظهورها.
 
كما تُستَثار هذه المخاوف بالإشكاليّات التي قد تظهر عند الافتراض أنّ تقنية كريسبر ستعمل بشكل مثاليّ ودقيقّ.
 
لسوء الحظ، من غير المرجّح أن يكون الأمر كذلك، ففي يوليو/تموز نشر العلماء تقريرًا في دوريّة “Nature Biotechnology” والذي وجد أنّ استخدام تقنية كريسبر-كاس9 قد يكون أكثر ضررًا ممّا اعتُقِدَ سابقًا، عن طريق تغييره لشدفٍ كبيرة من الحمض النوويّ (DNA).
 
 
 
يقول الدكتور أفنير هيرشلاغ من مركز نورث ويل هيلث للخصوبة في منهاسيت بنيويورك: «يجب استخدام هذه التقنية برويّة، لأنّها ترتبط بالعديد من المشاكل».
 
وبالتالي، للوصول إلى هذه المورثة الوحيدة وإزالتها، تأثيراتٌ غير مقصودةٍ وخارجة عن الهدف في مواقع أخرى من الجينوم.
 
بمعنى آخر، يمكن للبروتين كاس9 -الذي بُرمِج لقصّ موقعٍ واحدٍ- الانتقال إلى مواقع أخرى من الجينوم وإحداث تغييرات لا يُرغَب بها، بحسب ما قاله هيرشلاغ لدوريّة “Live Science”.
 
لكنّه من غير المرجّح أن يدرك العالِمُ أنّ هذه التغييرات قد حدثت، أيّ أنّها لن تصبح جليّة حتّى ولادة الطفل، أو حتّى مراحل لاحقة من حياته.
 
وأضاف هيرشلاغ: «هناك حالات جينيّة عظمى لن تعبّر عن ذاتها حتّى مراحل لاحقة من الحياة.»
 
 
 
ويمكن لهذه التغييرات الجينية أن تنتقل في المستقبل عبر الأجيال، كما أنّ هناك خطرًا آخر يُدعى التّزَيُّق، تحمل الخلايا في الحالة الطبيعيّة ذات/نفس الجملة من الجينات، وهنا يكمن تعريف التّزيّق في أنّ بعض الخلايا -وليس جميعها- ستحمل تغيّرات جينيّة بسبب التعديل الوراثيّ، هذا الأمر، بحدّ ذاته قد يؤدّي إلى المرض.
 
أشار كلٌّ من عدلي وهيرشلاغ إلى أنّه اذا أردنا تحقيق الهدف -منع أو كبح الإصابة بالعوز المناعيّ البشري-ّ هناك أساليب أخرى أسهل وأكثر أمانًا لتحقيقه.
 
على سبيل المثال، إتّباع طريقة (PrEP) للعلاج، إذ تبيّن في تجارب واسعة النّطاق، فعاليّة هذه التقنية من خلال الالتزام بأخذ حبّةٍ يوميًّا في الحدّ من الإصابة بالعدوى، كما أنّ هناك علاجات أخرى تلوح في الأفق.
 
وبالتالي، يقول عدلي: «من سيتحمّل مسؤولية هؤلاء الأطفال المستقبليين؟ عندما يُعالج أقرانُهم بحبّة بسيطة ويعيشون بسعادة، فيما قد يعاني الأطفال المعدّلون جينيًّا من كلّ التأثيرات الجانبيّة التي لم يتمّ التّعرّف عليها بعد.»
 
أصداء الخبر وفقًا لدوريّة “Nature”
لم يتمّ التحقق من ادعاءات الباحث من الجامعة الجنوبيّة للعلوم والتكنولوجيا في الصين باختبارات مستقلّة على الجينوم، حتّى أنّها لم تُنشَر في دوريّة مراجعة الأقران.
 
ولكّن في حال صحّة ذلك، قد تمثّل ولادة التوأم قفزة نوعيّة ومثيرةً للجدل في مجال استخدام تعديل الجينوم.
 
حتّى يومنا هذا، اقتصر استخدام هذه الأدوات بتعديل المضغ في الأغراض البحثيّة، وفي أغلب الأحيان للتّحقّق من منافع استخدام التكنولوجيا لاستبعاد الطفرات المسبّبة للأمراض.
 
طُلب من العالم فيودور يورنوف -في معهد ألتيوس للعلوم الطبيّة الحيويّة في سياتل، واشنطن- أن يستطلع الوثائق التي تصف تحليل تسلسل الحمض النوويّ (DNA) من المضغة البشريّة والجنين المعدّل في موقع المورثة (CCR5): «تتماشى البيانات التي عاينتها مع حقيقة كون التعديل قد حدث فعلًا، لكنّ الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كان التعديل قد تمّ على جينوم الأطفال تكمن في اختبار الجينوم بشكلٍ مستقل.»
 
يجد يورنوف مشكلةً في اتّخاذ قرارٍ كتعديل جينوم مضغةٍ بشريّةٍ بغية منع عدوى فيروس عوز المناعة البشريّ.
 
فهو يستخدم هذه الأداة أيضًا لاستهداف الجينة (CCR5)، لكن تقتصر دراساته على مرضى الإيدز وليس المُضغ البشريّة، يقول: «هناك طرقٌ أخرى آمنة وفعّالة لاستخدام علم الوراثة في حماية البشر من فيروس (HIV)، لا تقتضي تعديلًا لجينات المضغة.»
 
كما شكّكت باولا كانون -التي تدرس العوز المناعيّ البشريّ في جامعة جنوب كاليفورنيا- بقرار استهداف المورثة (CCR5) في المضغة البشريّة.
 
إذ بحسب قولها أنّ بعض الذراريّ من فيروس (HIV) لا يستخدم هذا البروتين للولوج إلى الخليّة، وإنّما تستخدم بروتينًا آخر يدعى (CXCR4).
 
حتّى أنّ الأشخاص سلبيّو بروتين (CCR5) طبيعيًّا -أيّ لا يحملون هذه المورثة- ليسوا مقاومين بشكلٍ كاملٍ للفيروس، لأنّهم قد يصابون بالذراري التي تعتمد على البروتين (CXCR4).
 
يقول جوليان سافوليسكو مدير مركز أوكسفورد يوهيرو للأخلاقيّات العمليّة في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتّحدة: «تعرّض هذه التجربة أطفالًا أصحّاء طبيعيين إلى مخاطر التعديل الجينيّ بدون أيّ منفعةٍ ضروريّةٍ حقيقيّة.»
 
الجامعة لا علم لها
أفادت الجامعة الجنوبيّة للعلوم والتكنولوجيا في بيان لها يوم 26 نوفمبر/ تشرين الثاني أنّها لم تكن على دراية بالتجارب، وأنّ العملَ لم يُؤدَّى في الجامعة وأنّ العالِم في إجازة منذ فبراير/ شباط.
 
كما استلزمت بحثًا علميًّا للالتزام بالقوانين واللوائح الوطنيّة واحترام الأخلاقيّات الأكاديميّة الدوليّة والمعايير الأكاديميّة والامتثال لها، وأشارت أنّها ستُقيم مجلسًا للتحقيق في الأمر.
 
تقدُّمٌ لا مفرّ منه؟
تأتي أخبار التّجربة مع تجمّع الباحثين بهذا المجال في هونغ كونغ لعقد اجتماعٍ دوليّ رئيسيّ حول تعديل الجينوم، والذي سيستمر من اليوم -27 نوفمبر- حتّى 29 نوفمبر/ تشرين الثاني.
 
يكمن أحد الأهداف الرئيسيّة للقمة في التوصّل إلى إجماعٍ دوليّ حول كيفيّة الشروع في تعديل البيوض، أو النطاف، أو المضغ والمعروف بـ “germline editing”.
 
وحتّى قبل ظهور خبر التجربة، اعتقد كثيرون في المجال أنّه من المحتّم أنّ أحدًا ما يستخدم أدوات تعديل الجينوم لإحداث تغييرات في المضغ البشريّة من أجل زرعها في الرحم، دافعًا باتجاه وضع تدابير أخلاقيّة في هذا الصّدد.
 
يشجّع البحث استخدام تعديل الجينوم على المضغ البشريّة في الحالات المرضيّة، ويقول أنّه ينبغي حظر التعديل الجينيّ لأغراض كزيادة مستوى الذكاء أو اصطفاء خواص كالشعر ولون العينين.
 
ويقول في بيان له: «أتفهّم أنّ عملي هذا سيكون مثيرًا للجدل، لكنّني أعتقد أنّ العائلات تحتاج هذه التكنولوجيا، وأنا على استعدادٍ لتلقّي الانتقادات لأجلهم.»