"الوحيدون المهتمون بتغيير العالم هم المتشائمون، فالمتفائلون سعداء بما يملكون... تفاؤل المرء في أوقات كهذه ينمّ إما عن انعدام أي إحساس وإما عن بلاهة فظيعة". (جوزيه ساراماغو)

السرطان يجتاح لبنان.

خبر عبر سريعاً في زحمة أخبار السياسة والسياسيين في لبنان.

لم يتوقف الكثيرون عند هذا الخبر، ولم يحتلّ العناوين الرّئيسيّة لِما تبقّى من الصحف الورقية ولا مقدّمات نشرات الأخبار التلفزيونية، كما عبر سريعاً على المواقع الإلكترونية.

حتى مواقع التواصل الإجتماعي التي تدور فيها معارك طاحنة بين الجيوش الإلكترونية، لم يستفزّها هذا الخبر، فللجيوش الإلكترونية قضاياها المقدّسة في الهجاء والمديح وإسكات الخصم بالضربة القاضية وتلميع صور الزعماء والطوائف، ولا وقت لدى هذه الجيوش للبحث في أسباب إنتشار السرطان حتى ولو هدّدهم في عقر ديارهم.

الناس تعوّدوا التّضحية بأرواحهم في سبيل قادتهم، لذلك لم ترعبهم تقارير منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى تبوّؤ لبنان المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بالسرطان قياساً على عدد سكانه، إذ تشير الإحصاءات إلى نحو 9000 حالة وفاة سنة 2018، و17000 إصابة بمعدّل 242 لكل 100 ألف لبناني .

هذه التقارير لم تثر مخاوف المسؤولين. فهم يتابعون حياتهم اليوميّة في الإستقبالات والسهرات والإجازات والزجليات والتصريحات والبيانات والردود والمقابلات، وفي ضخّ أكبر فائض من الكراهيّة والأحقاد والتباعد والإنقسام ونبش قبور الماضي وتركيب الثارات و"تنجير الخوازيق"، في انحدار لغوي لم تشهده الحياة السياسية حتى قي عزّ الحرب.

هكذا تضحي لقاءات المرجعيات التشاورية وتبادل الزيارات في ما بينهم حدثاً يتمّ التوقف عنده وتُبنى عليه التحليلات والرّهانات والإستطلاعات، ويتبارى المحلّلون في فحص المفردات وقسمات الوجوه وحركات الأيدي وعلى غرار لعبة الـ"إكس" حيث يتمّ القفز بين المربعات السياسية فوق الأجساد التي أرهقها السرطان.

لا وقت لتقصي أسباب إحتلال لبنان هذه المرتبة المتقدّمة من المرض، فالأنظار شاخصة إلى فكفكة العقد المسيحية والدرزية والسنية، وإلى استطلاع ما يجري في الحديدة والبصرة وبغداد وإدلب والأهواز وطهران.

جداول الأعمال حافلة، ولا مكان فيها للسرطان ولا لعلاجاته وأدويته.

فالسرطان في لبنان قضاء وقدر ولن يؤثّر في الديموغرافيا. فهو لن يصيب طائفة دون إخرى.

من قال إن له علاقة بتلوّث الماء والهواء والغذاء؟

من قال أن للمكبات والمطامر وعجقة السير والمولدات والكسارات والأسمدة والسموم علاقة بانتشار السرطان أو بالتلوث؟

فأنهار الليطاني وبيروت وأبو علي والغدير وابرهيم والجوز، كانت قديماً أنهاراً في دروس الجغرافيا في الصفوف الإبتدائيّة. فلنتعود على تسميتها اليوم بالمجارير حتى ولو كان طول أحدها 170 كلم.

ومن قال إن لبنان يحدّه من الغرب البحر الأبيض المتوسّط، فحدوده هي حالياً مكبات برج حمود والكوستابرافا.

لا وقت لدى السياسيين لدراسة أسباب انتشار السرطان.

الجميع مشغولون بتحصيل حقوق الطوائف عبر تقاسم الحصص الوزارية وفرز الوزارات بين سيادية وخدماتية ووازنة وغير وازنة.

فالسياديّة هي للإمساك بالقرار الوطني، والخدماتية هي للزبائنية السياسية وتجميع الأصوات.

وزارات، مثل الزراعة والإقتصاد والبيئة والصناعة المسؤولة عن أمن اللبنانيين الغذائي ولقمة عيشهم وتصريف مواسمهم ونقاء مائهم وهوائهم، لا تستهوي أحداً من المتصارعين على الحصص، الذين لم يخرج منهم واحد طوال مدّة التكليف والتأليف ليقول للبنانيين ما هو تصوّره للأوضاع اللبنانية وما هي استراتيجيّته أو برنامجه للحكم لتحسين أحوال اللبنانيين وصحتهم ولحمايتهم من شتّى الأخطار التي تهدّد استمراريّتهم وصمودهم.

فالقيادات السياسية تعتبر أن كل وزارة هي ملك للوزير ولا علاقة لمجلس الوزراء مجتمعاً بالسياسة العامة للدولة بحيث بات اللبناني بحاجة إلى جواز سفر وتأشيرة دخول بين وزارة وأخرى، إضافة إلى أن ملوك الطوائف كلٌّ يستجير بحليف خارجي لإلغاء خصمه المحلّي أو إقصائه.

وإذ كان الكل مجمعاً على احتلال لبنان مرتبة متقدّمة بين الدول التي ينهشها الفساد، فإن ما يجري حالياً هو تجهيل الفاسدين وتعطيل آليّات المحاسبة والمساءلة.

وإذ كان الكلّ مجمعاً على خطورة الأوضاع الإقتصادية، فإن ما يجري هو تخويف من انهيار العملة الوطنية في سياق عضّ الأصابع عند توزيع الحصص والحقائب.

وإذا كان الكل مجمعاً على أن الدولة هي أفضل ربّ عمل على رغم تدنّي الأجور وانتفاخ القطاع العام وترهله، إذ لا يخضع العامل في هذا القطاع كما في القطاع الخاص لمزاجية أرباب العمل ولا يرتبط مصيره بالتقلّبات السياسية والأمنية، فإن ما جرى أخيراً في وزارات التربية والبيئة والطاقة من مناقلات كيدية وثارات مذهبية وحزبية، يشي بأن البلاد مسرطنة وبأن التلوث السياسي يضربها من كل الجهات وبأن في انتظار اللبنانيين المزيد من اللعيان والإستفراغ والإرهاق.

لم يعرف لبنان في تاريخه فجوراً ووقاحة كالفجور والوقاحة الحاليين.

لم يعرف طبقة سياسية كالطبقة الحالية في استغبائها للناس والاستلشاق بهم وبهمومهم ومستقبلهم، فالرعيان في وادٍ والقطعان في وادٍ.

كأننا لم نكتف بالسرطان. إنه الألزهايمر الذي يُحدث تغيّرات مثل الإكتئاب واللامبالاة، وتقلّب المزاج وعدم الثقة بالآخرين وسرعة التهييج والعدوانية وفقدان القدرة على الكبح والهلوسة في الاعتقاد بأنّه تتمّ سرقة كل شيء والعزلة الإجتماعية وفقدان الذاكرة.

وإذا كان مصير اللبنانيين معلقاً على حقيبة وزارية من هنا وحقيبة أخرى من هناك، وحقل تجارب يتمّ التعاطي معه بمثل هذه الخفّة السياسية، وإذا كان الخطاب السياسي في ردحه وبذاءته لا يرتقي إلى مستوى الأخطار التي تهدّد الوجود، وإذا كانت السياسة حفلة عضّ أصابع ومقامرة بأرواح الناس، وإذا كانت الصداقات والعداوات مثل دوّارة الريح تحرّكها تغريدة من هنا وتغريدة من هناك، فلماذا لا تقاطع الأقلام الصحافية والمواقع الإلكترونية المستقلة أخبار أهل السياسة في ترهاتهم وتصريحاتهم وتنقّلاتهم؟ ولماذا لا يتمّ استكتاب الخبراء والباحثين والناشطين في ميادين الصحة والبيئة والتربية والزراعة والإقتصاد وحقوق الناس، لإيجاد حلول للأمراض السياسية المزمنة التي تعوّدها اللبنانيّون وألفوها، وليتمّ تجريب بياض صفحات "النهار" في مقاطعة أخبار أهل السياسة، علّ ذلك يؤسّس لمرحلة جديدة وللغة جديدة قبل أن يفعل السرطان فعله ويسقط اللبنانيّون شهداء القرف واللعيان، وليُعطَ المتصارعون على الحصص والأحجام حصصهم لنرى ماذا سيفعلون بها.

لقد سئمنا التقاتل باسمنا، وعلينا، لأنّه إذا بقي سرطان السياسة بهذه الشراسة في الإنتشار، فقد تصبح البلاد شبيهة بمسرحية "ناطورة المفاتيح" مع افتقارها إلى شخصية زاد الخير الفيروزية، وسيبقى اللبناني مرمياً على باب بلاده كالقدح المكسور كما يقول نزار قباني.

إن شكّلت الحكومة أو لا، فلن يتغيّر شيء ما دامت اللعبة هي ذاتها واللّاعبون هم أنفسهم.