بعد أكثر من 10 أعوام على كتابتي مقال «ثروة لبنان غير الملموسة» يعلن اليوم البنك الدولي صراحة عبر تقرير جديد أنّ نسبة قياس قوة الاقتصاد في أيّ دولة لا تتمّ عبر البضائع والخدمات بل عبر مدى إنفاق الدول على بناء الإنسان، وتحديداً في مجالي التعليم والصحة. يقول البنك الدولي إنه كلما ارتفع الاستثمار في التعليم والصحة كلما زادت العمالة المنتجة والأكثر دخلاً ما يؤدّي إلى خلق مستويات أعلى من الثروة واقتصاد أقوى.
 

ويخلص التقرير الى أنّ رأس المال البشري يتكوّن من المعرفة والمهارات والصحة التي يراكمها الناس في حياتهم، ما يمكنهم من تحقيق إمكاناتهم كأعضاء منتجين في المجتمع».

وفي مقال «ثروة لبنان غير الملموسة» المنشور في جريدة «الاخبار» 5 كانون الاول 2007، نقلت ما نشره البنك الدولي حينها حول ما يحدّد «تقويم رأس مال الألفية الجديدة»:

تخمينات نقديّة عن مدى الأصول ـ المنتجة، الطبيعية وغير الملموسة ـ والتي يعتمد عليها التطوّر. رأس المال غير الملموس يُقاس من الفارق بين الثروة الكاملة والمخزون الطبيعي أو المُنتجِ، وبين الاستثمارات في التعليم، فاعلية النظام القضائي، والسياسات التي تستهدف جذبَ الحوالات المالية، وهذه من الوسائل الأكثر أهميةً لزيادة المكوّناتِ غير الملموسة للثروة الكاملة.

الرأسمال البشري (يقاس على أساس المستوى التعليمي) والحوكمة (تقاس من خلال «دليل حكم القانون» للبنك الدولي) يؤلّفان معاً 93% من الرأسمال غير الملموس. طبقاً لأرقام هاملتن، يساوي حكم القانون 57% من الرأسمال غير الملموس لبلد ما. والتعليمُ 36%. أما الحوالات المالية فلا تشكّل أكثر من 7%»..

وطالبنا بتحقيق الخطوات التالية بهدف دفع النموّ وخلق فرص عمل وزيادة ثروتنا غير الملموسة، ومنها:

-1 الاستثمار في التعليمِ (خصوصاً التعليم الرسمي)، وتدريب للمهارات والخبرة.

-2 تحسين الحوكمة والتأسيس لنظام قضائي فعّال وكفوء.

-3 تحسين المنافسة والنموّ الاقتصادي، وخلق بيئة باعثة على الاستثمار وتطوير القطاعِ الخاصّ، وترويج النموّ في القطاعات العصرية مِنْ صناعة وخدمات، والدفع بإنتاجية العمل إلى الأمام.

-4 تطوير الثقة بين الناس وتشجيعهم على العمل معاً خدمة لهدف مشترك.

-5 تأليف حكومة فعّالة ومؤسسات تسمح للبناني باستثمار القوة العقلية التي يمتلكها.

-6 عكس عملية استنزاف الأدمغة وهجرة اللبنانين المهرة.

أنظر بحسرة اليوم الى ما حققناه من كل ذلك بعد 11 عاماً، انظر الى شبان يتنازعون في الجامعات لأسباب حزبية، بدلاً من أن يكون هدفهم الأوحد الابتكار والاختراع، أرى نزاعاً وقتالاً بسبب وضع تمثال، أرى ما يُسمى «الجيش الاكتروني» الذي يتم تجنيدُه دفاعاً عن زعيم بدلاً من أن يتم تجنيدُه لتحصيل مزيد من المعرفة في عصر الذكاء الاصطناعي، وتحضير الشبان لعصر لن يكون المعيار فيه الّا الابتكار والمعرفة العلمية.

نعترف بأننا لن نتمكّن من تحسين الحوكمة والمنافسة من دون فرض بيئة شفافة عبر مكافحة الفساد، ولا يكون ذلك الّا عبر «شطف الدَرَج» من فوق الى تحت، ولكن اذا لم تكن «البلّوعة» فاعلة سيطوف المنزل، و»البلّوعة» هنا تمثل التفاصيل الصغيرة والاجراءات التي تحتاج كلها لإعادة صياغة.

وتستوقفني عبارة حكومة فعّالة، ونحن عاجزون حتى اليوم عن تأليف حكومة، كيف لحكومة وحدة وطنية أن تكون فعّالة؟ كيف لحقائب يتمّ توزيعُها هديّةً وترضيةً للأحزاب المتنازعة أن تكون فعالة؟ كيف لمجلس نيابي يكرر نفسه داخل الحكومة ان يحاسب الحكومة ويحاسب فعاليتها؟ كيف لبعض الوزراء الذين جرّبناهم لسنين طويلة ولا خبرة لهم في التفاصيل أن يؤمّنوا الفعالية، هم ذاتهم تُرجعهم أحزابُهم لمناصب لم يُفلحوا فيها، هم ذاتهم لا يدفعون رواتب ولا يصدّرون ولا يدفعون ضرائب ولا تحترق أعصابُهم عند إنتاج سلعة أو إخراج مستوعب من المرفأ أو طلب قطعة إلكترونية عبر البريد السريع؟

هم أنفسهم لا يعرفون ماذا يعني الوقوف في طوابير الضمان ويتناسون المليار ونصف مليار التي لم تدفعها الدولة للضمان، ولا يدركون أثر منع التنافسيّة في قطاع الاتّصالات وغيرها من القطاعات وأثرها على حقوق المستهلك ويعتبرون الاحتكارات طبيعيةً في أيّ نظام اقتصادي؟.

أما في قطاع التعليم، فعلى رغم أنّ لبنان احتلّ المرتبة الرابعة عالمياً في تعليم العلوم والرياضيات، إلّا أنه لا يستفيد فعلياً من هذه الطاقة، فيقدّر البروفسور جاسم عجاقة أنّ الأهالي يدفعون 3 مليارات و880 مليون دولار سنوياً كلفة تعليم في لبنان، وهذا استثمار ضخم والنتائج واضحة لجهة المركز العالي للطلاب، ولكنّ لبنان لا يستفيد فعلياً من الموضوع بسبب هجرة الأدمغة وعدم توافر فرص العمل المنتجة.

هذا من جهة، من جهة أخرى إذا نظرنا الى واقع التعليم في لبنان فهناك فجوة بين القطاعين الرسمي والخاص وذلك من حيث تحديث المناهج والتكنولوجيا واللغات الأجنبية، فسواءٌ أحببنا ذلك أم لا، فإنّ الذكاء الاصطناعي والالغوريتمات والروبوتيك والتقدّم في الهندسة الوراثية وتقنية النانو والبيولوجيا، تغيّر بالفعل عالمنا بوتيرة لا يمكننا أن نفهمها بالكاد.

ولذلك يجب أن ننظر إلى هدف التعليم بكامله ونتساءل ما إذا كانت أنظمتنا الحالية لا تزال صالحة للغرض، هذا بالإضافة الى حتمية الانفتاح على كل المجتمعات ما يحتّم تعليم لغات إضافية وتطوير ما يُعرف بالذكاء العاطفي.

أفكر في هذا وأنا أرى مجتمعنا ينحدر مجدّداً الى التبعية والطائفية، والى تيئيس جيل المستقبل، كفانا هدراً لرأس مالنا البشري، وخلق الأحقاد والتقسيم بدلاً من البيئة الموحّدة الطامحة للعمل الجماعي المنتج وتعزيز ثقافة الابتكار.