العراق اليوم في حقيقته يُدار من قبل ميليشيات الحشد الشعبي بعد أن تسلل زعماء تلك الميليشيات إلى مجلس النواب متمتعين بحصانته.
 

أغلقت الولايات المتحدة قنصليتها في البصرة وطلبت من مواطنيها عدم السفر إلى العراق. ذلك مؤشر خطير على خطوات غير محسوبة وغير متوقعة قد تُقْدم عليها الدولة التي صنعت العراق الجديد بدستوره وتركيبة نظامه وتصريفه لثرواته وطبيعة علاقاته مع العالم الخارجي وبالأخص في ما يتعلق منها بإيران.

كان هناك تفاؤل في أن تعيد الولايات المتحدة حساباتها في العراق. أن تقلب مثلا الطاولة بكل ما عليها من معادلات طائفية مجحفة في حق العراقيين بسبب ما انطوت عليه من فساد كارثي.

لقد تصوّر العراقيون أن نهاية حكم حزب الدعوة، وقد تزامنت مع فرض العقوبات على إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ستكون مناسبة لكي تعمل الإدارة الأميركية على فك ارتباط العراق بإيران والانتهاء من عقدة الولي الفقيه بكل ما خلفته من آثار سيئة جَسّدَها استفحال ظاهرة الحشد الشعبي والحكومات الضعيفة التي تستظل بتلك الظاهرة. غير أن تصوّرهم قد لا يكون في محلّه.

ها هي دولة الحشد الشعبي تفرض وجودها واقعيا على الشارع.

ولو توقف الأمر عند حدود الاغتيالات والقتلة مجهولي الهوية، لقلنا إن الأمر مرتبط بالنزاعات الحزبية تمهيدا لتقاسم مغانم المرحلة المقبلة. أما أن تعلن الولايات المتحدة عن هزيمتها أمام التهديدات الإيرانية وتغلق قنصليتها في البصرة خوفا على حياة موظفيها، فذلك يعني أن القوة الضاربة التابعة لإيران قد حسمت الأمر لصالحها، ولم يعد في إمكان الأميركيين أن يفعلوا شيئا لإنقاذ العراق من خلال إقفال الملف الإيراني.

ستنعكس تلك الهزيمة سلبا على حركة الاحتجاج الشعبية في البصرة. فالإجراء الأميركي سيقوي من شوكة الميليشيات الإيرانية التي كانت قد أعلنت عن استعدادها لإجهاض أي محاولة جديدة للاحتجاج في المدينة الغنية بالنفط، والتي يشعر سكانها بالإحباط واليأس بسبب الفقر والبطالة وغياب الخدمات الأساسية وانعدام سبل الحوار مع الحكومتين، المحلية والاتحادية.

حين أحرق المحتجون القنصلية الإيرانية في البصرة كان متوقعا أن تشد الولايات المتحدة من أزرهم وتقف معهم على الأقل من جهة الدفاع عن حقوق الإنسان، غير أنها صمتت بما يعني أنها تخلّت عنهم. كان ذلك التخلّي بمثابة إشارة موافقة على أن تبطش الأجهزة الأمنية والميليشيات بالناشطين والناشطات. وهو ما تجلّى من خلال الاعتقالات والاغتيالات.

هناك الكثير من علامات الاستفهام تحيط بالموقف الأميركي من العراق. فهل قررت الولايات المتحدة وهي تستعد لفرض كامل للعقوبات على إيران أن تعتبر العراق محافظة إيرانية سيلحق بها العقاب أولا؟

فالعراق اليوم في حقيقته يُدار من قبل ميليشيات الحشد الشعبي بعد أن تسلل زعماء تلك الميليشيات إلى مجلس النواب متمتعين بحصانته. لم يقع ذلك التسلل بقوة الإرادة الشعبية كما قد يُخيل إلى البعض، بل بقوة التزوير الذي لم يُدنْهُ الغرب ولم تستنكره الولايات المتحدة.

وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد دخلت في وقت مبكر على خط تشكيل الحكومة العراقية الجديدة فإن خطتها لم تكن واضحة لأحد. لا أحد في إمكانه أن يجزم أن الولايات المتحدة قد حسمت أمرها في شأن مَن تدعم لكي يتولّى منصب رئيس الوزراء. في المقابل كانت إيران واضحة في ما تريد.

أليس هناك حلفاء للولايات المتحدة في العراق؟

سؤال حائر ومحير. فكل أفراد الطبقة الحاكمة في العراق الذين يتنافسون على السلطة ما كان لهم أن يعتلوا كراسي الحكم إلا بتزكية أميركية، وهم محلّ رضا وقبول أميركيين. فما الذي يعنيه العجز الأميركي عن العثور على شخصية تكون غير موالية لإيران؟

ذلك يعني أن سلطة الاحتلال الأميركي قد حصرت خياراتها لحكم العراق في شخصيات موالية لإيران منذ البدء. وهو قرار لا تزال دوافعه غامضة بالرغم من أن ما يشهده العراق اليوم قد يفتت ذلك الغموض.

فإذا ما صحّت التوقعات واستلم عادل عبدالمهدي، وهو من الموالين لإيران، رئاسة الحكومة العراقية المقبلة فإن المخطط الأميركي سيكون واضحا بطريقة لا تقبل اللبس أو الشك.

سيكون على العراق أن يدفع ثمنا باهظا جرّاء وقوعه ضمن دائرة العقوبات الأميركية. وهو ما يعني التنفيس عن إيران في أوقاتها العصيبة، مقابل أن يستمر العراق دولة فاشلة يحكمها الفاسدون.