«الفقر في الوطن غربة»، هكذا يصف «أبو محمود» حالته في بلده الذي يحبه رغم أنه «لا بحر، ولا هواء، ولا كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا حياة كريمة نتمتع بها نحن الفقراء، فكأننا نعيش على هامش الحياة. حتى البحر الذي نلجأ اليه لنرمي فيه همومنا ومشاكلنا اليومية، ونرتمي في أحضان مياهه، فرحين بالانتعاش الذي نفتقده طيلة أيام الأسبوع في منازلنا في ظل الحرارة المرتفعة، يبدو اليوم، وبحسب الإحصاءات العلمية التي يكشفونها لنا، مليء بما يكفي من ملوثات، وكأنهم يقولون لنا أنتم الفقراء أمام خيارين: إما الموت من الحرارة وإما الموت من ملوثات البحر»، متسائلاً: «ألا يكفي كل ما نعانيه من مشاكل اقتصادية واجتماعية حتى البحر، ملجأنا الوحيد، بات اليوم ممنوع علينا». وبعد أن يصمت للحظات، وينظر إلى البعيد، يردد بلهجة العاتب «نعرف جيداً أن مياه هذا البحر ملوثة، يمكن أن تؤذي أطفالي الخمسة، لكن لن أتوقف عن المجيء إليه لأنه بكل بساطة لا يمكنني ارتياد المنتجعات الخاصة لعدم توافر الإمكانيات المادية، وفي الوقت عينه أريد أن أوفّر بعضاً من السعادة لأفراد عائلتي».
 

ما يقوله أبو محمود الذي غالباً ما يقصد أحد الشواطىء في بيروت والذي أظهرت نتائج تحاليل لعيّنات من مياهه أن التلوث يصل إلى درجة خطيرة، لسان حال الناس الذين يقصدون الشواطىء الشعبية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، والتي يعتبر عدد منها غير صالح للسباحة حسب نتائج التحاليل. والمفارقة أن رواد هذه الشواطىء يعرفون كل المعرفة خطورة السباحة في المياه الملوثة، لكنهم مصرون على ارتيادها لأنهم كما يقولون: «يحق لنا أن نتنفس، وأن نستمتع بأشعة الشمس وننتعش بمياه البحر رغم تلوثها، والإسترخاء على رمال الشاطئ حتى لو لم نكن من الطبقة التي بإمكانها ارتياد المسابح الخاصة والمنتجعات التي أصبحت كلفتها نار حارقة بالنسبة لنا». وفي جولة لـ«المستقبل» على بعض الشواطىء الشعبية أو العامة التي صنفت مياهها بالخطيرة، بدت نسبة الرواد إليها أكثر من تلك الخاصة، وهم غير مكترثين بنتائج التحاليل حيث يعتقد البعض أن مياه البحر تبقى صالحة للسباحة بفعل المد والجزر والأمواج العالية التي تأخذ معها المياه الآسنة وتجلب المياه النظيفة في حين يتعاطى البعض الآخر مع المسألة باستخفاف، معتبرين انه أصبح لدى اللبناني مناعة على التلوث الذي يحيط بنا من كل حدب وصوب، ممازحين بالقول: «ربما لو سبحنا في مياه نظيفة وخالية من الملوثات، سنشعر بعوارض غريبة»، متسائلين: «هل نحن نتحمل مسؤولية التلوث؟ لماذا كل هذا الاهمال اللاحق بالطبقة الكادحة، ولماذا لا تنشىء الدولة مسابح تمتلك المقومات الصحية التي تسمح للمواطن بالسباحة في مياهها؟»، مطالبين «المسؤولين والمعنيين بالاهتمام أكثر بشؤون وهموم الناس خصوصاً الفقراء الذين لا حول ولا قوة لهم».

وعلى أحد الشواطىء المصنفة ملوثة، تجلس «أم مارك» تحت الشمسية، تدخن الارجيلة، وأولادها الأربعة يمرحون في أحضان الأمواج، وتقول: «أعرف أن المياه هنا ملوثة لكن أولادي يحبون البحر كثيراً، وهم يسبحون جيداً، ولا يمكنني أن أحرمهم من البحر. إمكاناتي المادية لا تسمح لي للذهاب إلى مسابح خاصة إذ أن راتب زوجي بالكاد يصل إلى الحد الأدنى ولا يكفينا للأكل والشرب. نتمنى لو أن الدولة تهتم أكثر بالفقراء لأنه يحق لهم أن يعيشوا ويفرحوا». وتضيف «أخاف أن يتعرض أولادي لأمراض جلدية بسبب المياه الملوثة، لكن الاتكال على الله».

وبالانتقال إلى مسبح شعبي آخر، المشهد ذاته يتكرر، والأحاديث نفسها على كل شفة ولسان. هناك، يكاد أبو رامي لا يخرج من المياه مع زوجته وابنه وابنته إلا ليشرب أو يأكل أو يرتاح لبعض الوقت خصوصاً وأن الطبيب وصف له السباحة بعد معاناته طويلاً من وجع الظهر، فيقول: «نحن فقراء صحيح، لكن لسنا أغبياء. نعرف جيداً أن المياه ملوثة، لكن للأسف نحن في بلد ناس تضيق من الفقر ذرعاً وناس تضيق بوسع النعيم. بكل بساطة لا يمكننا ارتياد المسابح الخاصة، مضطرون أن نرضى بما يتوافر، يعني «على قد بساطك مد اجريك»، لكننا نأسف أن الدولة وصلت بإهمال شعبها إلى هذا الحد حتى أنهم يحرموننا أبسط مقومات الحياة». لتتدخل زوجته، قائلة: «البحر أكثر نظافة من عدد من المسؤولين، ونحن لا نخاف من مياهه بل من شرورهم».

أما الأطفال الذين يطغى صراخهم على أصوات الامواج العاتية، فلهم قصصهم الخاصة مع البحر، غير آبهين لا لنظافة مياهه ولا لتلوثها، يركضون، يلعبون بالرمال، وكأن الشاطىء الفسيح يضيق بفرحهم، فهم يكتفون بموجة تقذفهم نحو الشاطىء وببعض الحلويات والعصائر، جل ما يريدون الضحك واللعب، لا يفقهون شيئاً من التلوّث سواء أكان جرثومياً أو كيمائياً علهم حين يكبرون يكون التلوث على الأصعدة كافة قد اندثر ليعود لبنان درّة الشرقين، وسويسرا الشرق، فيسبحون مع عائلاتهم بمياه بحر نقية وصافية.