سياسة عض الأصابع لمن يصرخ أولاً ما زالت مستمرة، ويبدو حتى الساعة وفي المستقبل المنظور وفقاً للمعطيات المتوفرة أن الرئيس المكلف لن يكون البادئ في إطلاق صرخة الاستسلام، وكل تصرفاته، تدل على أنه باقٍ على مواقفه بالنسبة إلى الصيغة التي طرحها للحكومة العتيدة، ولن يتراجع قيد أنملة مهما اشتدت الضغوط وتعددت أو تنوعت المناورات، انسجاماً مع نفسه واقتناعاً منه بأن ما يطرحه يصب في مصلحة الوطن أولاً وقبل أي أمر آخر، ويخدم العهد الذي ينتظر بفارغ صبر انطلاقته بشكل خاص.

الرئيس المكلف بذل في خلال الشهرين اللذين مضيا على التكليف كل ما يسعه للوصول إلى تأليف حكومة وحدة وطنية تضم كل المكونات الأساسية في البلاد وفق معيار واحد هو نتائج الانتخابات النيابية، وكان حريصاً طوال هذه الفترة على أن يكون على تواصل دائم مع رئيس البلاد والذي كان سبّاقاً إلى تبني فكرة حكومة الوحدة الوطنية من موقعه كرئيس لجميع اللبنانيين  واستناداً إلى الواقعية السياسية التي أثبتت أن لبنان هو بلد التوافق ولا يُحكم إلا من خلال هذه الصيغة.

والرئيس المكلف لا يزال عند هذا الرأي وملتزماً بمبدأ التوافق، وضد إقصاء أي مكون من المكونات اللبنانية، وقد أثبتت الأيام التي مضت على التكليف أنه لن يغير من قناعته مهما بلغت الضغوط وتعددت المناورات من هذا الفريق أو ذاك، ويعتبر أن المشكلة ليست في ملعبه بل في ملعب الذين يصرّون على سياسة الاقصاء وصولاً إلى التفرد بالسلطة ويمارسون كل الضغوط عليه لكي يقبل بهذه السياسة ويسلم لهم السلطة كاملة مع معرفته التامة بأن ذلك لا يخدم العهد بل يعمق الهوة بين اللبنانيين ويفتح أبواب الأزمات المختلفة على العهد الذي يطمح من خلال الحكومة العتيدة إلى إطلاق حركة إصلاح واسعة واستقرار سياسي وأمني في البلاد وليس العكس.

اليوم تلوح في الأفق الداخلي ملامح حركة إلتفاف على الرئيس المكلف من الذين يدَّعون الحرص على إنجاحه في سرعة تشكيل الحكومة العتيدة، وهي العودة إلى حكومة الأكثرية بذريعة فشل المساعي التي بذلت بتشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة،  وبذريعة حرصهم على انتظام العملية الديموقراطية البرلمانية التي تنص على وجوب أن يكون هناك معارضة وموالاة، لا أن تكون الحكومة صورة مصغرة للمجلس النيابي الذي يضم كل الأطراف والمكونات السياسية في البلاد ومعه ينتفي دور المجلس النيابي في الرقابة والمحاسبة وتتحول الحكومة إلى سلطة مطلقة بلا رقيب ولا حسيب.

إذا كان هذا الطرح من قبل فريق رئيس الجمهورية جدياً ويبدو من خلال مواقف هذا الفريق المعلنة أنه كذلك، فمعنى ذلك أن هذا الفريق نفسه هو المتآمر الأول على العهد، لأن مثل هذا الطرح لن يتحقق، وأن أزمة التأليف طويلة بكل ما تعنيه من تداعيات خطرة على الأوضاع الداخلية المأزومة أصلاً.