رئيس الجمهورية يطالب شعب لبنان العظيم بـ"مساعدة الدولة في مكافحة الفساد، لأن لا امكان لإنجاز اصلاح في مجتمع لا يتعاون شعبه مع دولته في مواجهة الفساد فيه". 

الشعب يجب ان يتعاون مع الدولة التي تسمح لقاضٍ مرتشٍ وفائق الثراء على ما يبدو، بأن يستقيل ويحافظ على تعويض نهاية الخدمة ويحظى بتأمين الطبابة والاستشفاء والدواء من صندوق تعاضد القضاة. ويمكنه الاختيار بين التعاقد بصفة مستشار مع الدولة التي لم ترمه في السجن ولم تحاكمه، أو العودة الى المحاماة.

مكافحة الفساد مستحيلة عندما لا تبدأ من المكان الصحيح وهو القضاء والمؤسسات الرقابية. اما تحميل الشعب المسؤولية ومطالبته بالتعاون، في حين ان التعاون غير متوفر في صفوف فريق عمل كل طرف سياسي حيث كل شاطر بشطارته، او بين الأطراف السياسيين مجتمعين (عفواً متنابذين) وكل طرف منهم يروِّج انه على حق ويحتكر الغيرة على المصلحة العليا. وكل طرف يشد لحاف السلطة الى جسده وحده دون غيره، ليس ليدفأ لكن ليتعرى الآخرون ويموتوا برداً بلا سلام.

اما الشعب، شعب لبنان القوي الذي يطيب له ان يشبِّه نفسه بطائر الفينيق، فهو لم ير دولة او مؤسسات يعاونهما في إنجاز إصلاحٍ ما لمواجهة الفساد، او ربما هو لا يريد دولة ومؤسسات. يريد زعماءه هؤلاء. بالتالي هو يقنع نفسه بأن المسألة أشبه بدائرة مقفلة يدور من فيها حول نفسه ويرتطم بالآخرين إن هو حاول تغيير وجهة السير الآلية والمستمرة منذ امساك هؤلاء الأطراف بمفاصل البلاد او منذ السماح لهم بذلك عبر صناديق الاقتراع.

لبنان في المرتبة 143 في مؤشر مدركات الفساد للعام الماضي من أصل 180 دولة، ما يشير الى ان الجمهورية اللبنانية منخورة، بقطاعاتها ومؤسساتها وإداراتها.

القضاء واحد منها. وتدخلات أهل السلطة في التعيينات القضائية وفي الوصول الى السلطة الرابعة ليست سراً. وهي، كما كل التدخلات التي لا تلتزم الا مبدأ المحسوبيات، والا كيف نفهم ان يكون الأخ والابن والبنت والصهر في مواقع القرار في البرلمان او الحكومة او الإدارات. بالتالي لا لزوم للاستغراب لدى افتضاح أمر قاضٍ مرتشٍ. ففي منقلبات الفساد اللبناني، فإن الحقيقة الأقوى تبقى "كلهم يعني كلهم". ومن تراجع عنها وخاف من الزواريب او حلم باللعب على التناقضات ورقص على حبال الايديولوجيا المغشوشة، فاستثنى البعض من الكل، ساهم ببقاء الحال على حاله.

الفساد الذي حولنا، لا يحتاج الى بحثٍ وتحرٍّ. حولنا أثرياء الغفلة الذين ما إن تسلموا منصباً حتى فاضت النعم عليهم، ولا أحد يجرؤ على سؤالهم: من أين لك هذا؟ ولا أحد يتساءل عن سبب اكتظاظ السجون بأعداد كبيرة من موقوفين ومحكومين، ولكن ليس بتهم فساد او رشوة او سرقة مال عام.

ما الذي يجبر مواطناً، حتى لو كان متمرداً على القطيع الطائفي والمذهبي الذي يقفل الدائرة عليه، على مساعدة هذه الدولة التي لا تزجّ بأي فاسد في السجن؟!

وكيف للقضاء ان يفعل ذلك، اذا كان أهل السلطة يستنسبون التدخل لشل يده عن مرتكبين من المحسوبين عليهم.

ولِمَ العجب من وجود قاضٍ لبناني مرتشٍ؟! أليس التوافق وتقاسم الحصص سبب وصولنا الى المرتبة 143 من مدركات الفساد؟

لِمَ العجب عندما يصدر حكمٌ قضائيّ بسجن كاتب مقال او توقيف مدوّن لأنه أهان أحد السياسيين، في حين يسرح ويمرح من يرتشي او يقتل او يهرب مخدرات او يقتني سلاحاً غير شرعي؟

يطلب الرئيس تعاون اللبنانيين لمكافحة الفساد في حين ان المنفعة الشخصية التي تسود، هي بوابة سرقة أصول الدولة وفروعها وإيراداتها. لكن ماذا عن السياسات والتشريعات لحصحصة مكاسب القطاع العام بما يخدم أهل السلطة على حساب الشعب المُطالب بالتعاون؟

كل ما يجري، يشير الى حقيقة واحدة، وهي ان المطلوب من الشعب مزيد من الانفصال عن أهل السلطة ومن البعد عن أي محاسبة او مساءلة ومن اللامبالاة السياسية، اللهم الا اسقاط الأسماء المطلوبة في صناديق الاقتراع والتصفيق والاصطفاف عندما يحتاج الزعيم والقائد المفدّى الى أبناء العشيرة.

اما في خصوص الفساد، فالكل مدرك ان من يفتضح أمره، الى أي قطاع انتمى، لم يكن شاطراً بما فيه الكفاية، فالرشوة لها قواعدها وأصولها وجذورها التي لا تُقتلع بالخطابات في غياب أي تفعيل لمؤسسات الرقابة. اما المرتشي الفاشل فإن كان ذا حظوة يمكن لفلفة ملفه، اما من كان بلا سند... فذنبه على جنبه.