الأزمة أو الصدمة تحل بيننا ومفاتيح شفرتها في التصريحات التركية المتطرفة، وفي خط سير الشاحنات النفطية من كركوك إلى إيران تحت وقع خطى العقوبات الأميركية ونتائجها وارتداداتها على الميليشيات السياسية المسلحة.
 

الأزمات في العراق مطلوب منها أن تهبط من دون مظلة مساعدة أو ثانوية للاحتياط في حالة عدم فتح المظلة الأساسية التي تعاني أصلا من التهرّؤ والتقادم وكثرة السقطات.

الأزمات أيضا تصطدم بالوقائع دون كوابح، لذلك تأتي النتائج مماثلة لنظرية الصدفة على أمل استقرار العناصر المنفلتة بعد نفاد طاقتها؛ أي أن الرهان ينصب على هدر الزمن.

النظام بلا ناظم لتصريف شؤون السياسة حتى في العلاقة بين الحدود الإدارية للمحافظات، بل إن الخلاف على الصلاحيات البلـدية والأمنية يمتد إلى أصغر الوحدات داخل المدن بما فيها العاصمة بغداد لينعكس على فوارق تقديم الخدمات، لأن المقيـاس العام يفتقد إلى تطبيق المبادئ الأساسية للتعليمات الإدارية لضياع هيبة توجهات الدولة الضامنة لمصداقية علاقة الدولة بالمواطن تحت سقف المثل العليا المقررة في أي دستور أو أعراف أو أخلاق.

إذا كانت منابع العملية السياسية الراهنة تبدأ من الاحتلال الأميركي، ومصبات فروعها وسواقيها في الاحتلال الإيراني، فكيف سيتسنى للعراقيين بناء إنسان يتجاور مع أخيه في الوطن بمحبة وتفاهم وتعاون، ورغبة مشتركة في التقدم والنهوض؟

لهذا فإن التفاهمات معقدة والاتفاقيات فيها لبس مع تركيا لضمان الاحتفاظ بمناسيب مياه نهري دجلة والفرات بمعدلاتها، لأنها ترتبط بالفارق والتفاوت الكبير بين نظام الدولتين، وتتصل أيضا بحجم التنمية وقوة الاقتصاد واستقلالية القرار واستناده على إدارة كفؤة مهنيا، ومن خلفها جيش يقرر موازين القـوى لصالحه في فرض عقلانية الحلول السلمية كظهير، غائب حاضر، في كل المشاورات أو المفاوضات.

أزمة المياه وصدمة جفاف نهر دجلة في نفوس العراقيين والعرب والإنسانية هي خط شروع متكرر في العديد من دول المنطقة لانطلاق حروب أهلية ونزاعات عسكرية ومجاعات وإرهاب وهجرات تنذر بمخاطر غياب المعالجات الجوهرية لمشاكل تغير المناخ واختصار الحلول على تفاهمات معظمها غير ملزمة وبلا مضامين، تظل معها الصراعات الاقتصادية والسياسية من أسباب اندثار واختفاء أجزاء مهمة من التنوع البيئي والسكاني.

أخطر ما ورد من تصريحات مع بداية تدفق مياه دجلة لملء خزان سد أليسو ما قالته تركيا من أنها لا تتقاسم مع العراق ثرواته النفطية داخل أراضيه. في إشارة متطرفة إلى حق تصرفها بثرواته المائية رغم أن الاتفاقيات الدولية اجتهدت في وضع نظريات وفقه وتشريعات وقوانين قابلة للتطبيق تفرق بين ما هو ظاهر على الأرض من ثروات، وبين باطنها مع الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الحاجات الملحة بحسب تسلسل الأولويات في قائمة ثلاثية الحياة من هواء وماء وغذاء.

الطبيعة لا تعترف بالحدود السياسية الفاصلة بين الدول، إنها تتبع خصائص الجيولوجيا، ومشاكـل سرقـة المخزون النفطي في الآبـار القـريبة من الحـدود الـدولية يصب في صالح الـدولة ذات الأراضي المنخفضة، مع أنها سرقات غير مرئية لكنها تخضع لتفاهمات ومحـددات صنعت أطرا من التعاون في آبار مشتركة، تلافيا لأكبر مسببات النزاعات بين الدول المتجاورة التي تطفو غالبا على هيئة خصومات سياسية أو حدودية تتجنب الاتهامات المباشرة.

دكتاتورية تركيا في سلطتها على مياه نهري دجلة والفرات باعتبارها دولة المنبع لها مضامين استخفاف بكيان دولة مجاورة تناوشتها مصائب الحروب والاحتلال والتمزق العقائدي والقومي، وتناوبت عليها حكومات وأحـزاب وقادة كل همّهم ينحسر في التمييز الطائفي والانتقام التاريخي والإثراء غير المشروع ومحاباة النظام الإيراني.

حكام العراق في كل مرة يضعون الشعب العراقي أمام أزمة أو مصيبة جديدة، كما لو كانت مفاجأة غير محسوبة تتهيأ معها الدولة لوضع الحلـول والميزانيات لاستيعابها بإجراءات وتهويل وخطط عشوائية على طريقة إخراج الموصل وتنظيم داعش من العراق.

نهر دجلة وقع ضحية مخططات تعاون إقليمي بين تركيا وإيران، كما العراقيين الذين جربوا جفاف الفرات تحديدا في سنة 1976 لأسباب بعضها له صلة بطبيعة العلاقة بين الأنظمة السياسية إضافة إلى بناء السدود.

الأعراض الجانبية للأزمة مع تركيا وتأثيرها لا تخلو من أبعاد سياسية كالتي مع إيران في انخفاض مناسيب روافد نهر دجلة، أو انقطاعها في نهر الزاب الصغير التي أدت إلى تدمير مزارع الأسماك وتهديد للثروة الحيوانية، مع صلتها بضغوط مشتركة غير معلنة تجاه إقليم كردستان بعد أحداث أكتوبر الماضي في كركوك أو بما يجري الآن من توغل تركي في الأراضي العراقية.

رغم كل التحليلات فإن أزمة المياه الراهنة في العراق لن تتسرّب بعيدا عن حوض أسبابها المنطقية في شح الأمطار وقلة تساقط الثلوج على المرتفعات وارتفاع نسبة التبخر في مياه خزن السدود داخل العراق وانعدام المشاريع الحديثة وسوء إدارة الموارد المائية، إضافة إلى حرص تركيا وإيران على مصالحهما الخاصة، من دون أي اعتبار لما تتعرض له مصالح العراق وشعبه، المدمر أصلا بنظامه السياسي الفاسد والفاشل.

الأزمة مركبة ولن تقف عند قرار تركيا ملء خزان سد أليسو غير المفاجئ والمعلن، إنما تتعداها إلى كارثة عدم توفير الطاقة الكهربائية المستعصية منذ الاحتلال نتيجة للفساد وتخلف العقود والقفز بعمليات تجريب فنية لتغطية هدر الأموال وإخفاقات التنسيق الحكومي.

جفاف العراق أيضا يعود إلى قتل العلماء من أصحاب الخبرة والكفاءة واستبعاد ذوي الاختصاص من العراقيين لأسباب سياسية وأيديولوجية وطائفية، مع غياب النقد والمتابعة والاستقصاء في الصحافة والإعلام، وتراجع الأداء الدبلوماسي لوزارة الخارجية في استشعار السفارات لمهماتها بالمتابعة المبكرة لما يدور في أروقة الدول المختلفة من علاقات ذات صلة.

النفط مقابل الماء لم يعد شعارا لتسويق أهمية الماء، أو تنبيها لترشيد الاستهلاك أو لوضع الخطط. فالأزمة أو الصدمة تحل بيننا ومفاتيح شفرتها في التصريحات التركية المتطرفة وفي خط سير الشاحنات النفطية من كركوك إلى إيران تحت وقع خطى العقوبات الأميركية ونتائجها وارتداداتها على الميليشيات السياسية المسلحة، التي تستعد للعب على تناقض الأزمات للهبوط الإجباري بالكتلة الأكبر دون مظلة في برلمان العراق المقبل.