نجحت الحكومة اللبنانية في تنظيم انتخابات هادئة نظيفة خلت من حوادث أمنية كبيرة. وهذه نقطة إيجابية تسجل في خانة العهد ولصالحه، إذ في أول انتخابات تجري على أساس القانون النسبي، وموضوعة تحت رقابة دولية مشددة، نجح في الامتحان إن لجهة تعزيز المسار السياسي الديموقراطي أو لجهة توفير الظروف والحماية الأمنية.

المفاجأة الأولى في هذه الانتخابات تمثلت في نسبة المشاركة الشعبية التي جاءت أقل من التوقعات وحتى مخالفة لها. فبدل أن يكون القانون النسبي حافزا للمشاركة ودافعا الى تحقيق أعلى نسبة مشاركة يمكن أن تتجاوز عتبة الـ ٦٠%، فإن هذه النسبة كمعدل عام لامست عتبة الـ ٥٠ % من دون أن تتخطاها (أعلى نسبة مشاركة كانت في دائرة طرابلس الضنية المنية، وأقل نسبة مشاركة في بيروت الأولى (الأشرفية).

ضعف المشاركة يعني بشكل أساسي وجود حالة استياء ونفور ازاء قانون الانتخاب الجديد الذي يطبق لأول مرة ولم يتقبله أو لم يستوعبه الناس، إذ فرض عليهم لوائح مقفلة تحتوي مرشحين غير مرغوب فيهم وتحالفات مركبة ومتناقضة بين دائرة وأخرى، مبنية بالكامل على أساس «المصلحة الانتخابية» وليس فيها اعتبار لمبادئ وقيم سياسية وأخلاقية. ومن الطبيعي أن قانون «النسبي التفضيلي» الذي ولد على عجل رغم استنفاد شهور وسنوات في المداولات والنقاشات حول قانون جديد للانتخاب، سيكون موضع مراجعة وإعادة نظر في اتجاه التعديل والتطوير وسد الثغرات التي ظهرت في معرض تطبيقه. وفي ظل تعاظم الانتقادات وحالة عدم الرضى، فإنه من المشكوك به بقاء القانون كما هو في صيغته الراهنة، ومن المشكوك به أيضا أن يتم اعتماده للانتخابات الآتية بعد ٤ سنوات لتجري على أساسه.

كان من المفترض أن تترجم ردة فعل الشعب المحبط من الطبقة السياسية الحاكمة في اتجاه التحلق حول لوائح المجتمع المدني لإحداث تغيير، ولكنها ذهبت في اتجاه آخر، في اتجاه عدم الانخراط الحماسي والكافي في الانتخابات بشكل عام، وبالتالي ضعف المشاركة. وهذا يعني من جهة، أن الناخبين لم يجدوا في مشاريع ومرشحي المجتمع المدني «بدائل جدية ومقنعة»، ويعني من جهة ثانية أن النظام السياسي الطائفي، ومع قانون جديد كرس الحالة الطائفية بشكل «رسمي ومكشوف»، يحول دون بروز ونجاح المجتمع المدني كقوة شعبية تمثيلية وكدور تغييري مؤثر وفاعل، فلم ينجح الحراك المدني، وتحت يافطة «كلنا وطني» إلا في تحقيق اختراق كان متوقعا في دائرة بيروت الأولى، حيث المشاركة الأضعف والحاصل الانتخابي الأصغر. فلو كانت وصلت هذه المشاركة الى نسبة الـ ٥٠% وارتفع الحاصل الانتخابي أكثر، لما تمكنت لائحة المجتمع المدني من تحقيق اختراق بمقعدين.

١ - حزب القوات اللبنانية هو الرابح الأكبر في هذه الانتخابات. فقد أتاح قانون الانتخاب الجديد للقوات فرصة إظهار وإثبات تمثيلها الشعبي ونجحت في اقتناص هذه الفرصة وتحقيق أفضل نتيجة ممكنة تجاوزت أكثر التوقعات تفاؤلا لدى حزب القوات نفسه.

وأثبتت القوات قدرة تنظيمية وماكينة انتخابية هي الثانية بعد ماكينة حزب الله من حيث التنظيم والدقة، كما أظهرت إدارة ناجحة للعملية الانتخابية عبر التركيز على مرشح واحد في كل دائرة، وخطاب سياسي واقعي ركز على أولويات الناس وعناوين الإصلاح ومكافحة الفساد ومشروع الدولة.

كتلة القوات في برلمان ٢٠١٨ تلامس عتبة الـ ١٥ نائبا، لتصبح بذلك واحدة من الكتل الكبيرة (حزب الله «أمل» المستقبل - التيار الوطني الحر)، وتتقاسم الساحة المسيحية مع التيار الوطني الحر بعدما أسفرت الانتخابات عن سقوط مسيحيي ١٤ آذار وتراجع ملحوظ في كتلة الكتائب.

أهم ما حققته القوات في هذه الانتخابات:

- «الخرق المدوّي» في دائرة بعلبك الهرمل مع فوز مرشح القوات أنطوان حبشي عن المقعد الماروني، وفي هذه الدائرة حصل خرقان واحد للقوات وآخر للمستقبل (كان يتأرجح بين مرشحي عرسال من آل الحجيري وبعلبك من آل صلح...).

وهذه النتيجة تحققت بفعل كثافة الاقتراع المسيحي في البقاع الشمالي (دير الأحمر ومحيطها)، في حين جاء الاقتراع السني أقل مما كان متوقعا.

- حصد خمسة مقاعد في الشمال هم: ستريدا جعجع جوزف اسحاق (بشري)، فادي كرم (الكورة)، فادي سعد (البترون)، وهبي قاطيشا (عكار)... لتكون القوة المسيحية الأولى هناك.

- اقتحام جبل لبنان للمرة الأولى عبر تمثيل من ٦ نواب موزعين على جبيل (زياد حواط) وكسروان (شوقي الدكاش) والمتن (إدي أبي اللمع) وبعبدا (بيار بو عاصي) وعاليه (أنيس نصار) والشوف (جورج عدوان)... جبل لبنان، ومنذ العام ٢٠٠٥، يعد المعقل الأساسي للتيار الوطني الحر وخزانه النيابي ولم يكن للقوات فيه إلا مقعد الشوف.

- الحفاظ على تواجد في بيروت (الأشرفية) وتعزيز الحضور في البقاع، مقابل الغياب عن الجنوب المحافظة الوحيدة التي لا تمثيل نيابيا للقوات فيها.

أهمية هذا الرقم ١٥ (في حال تأكد مع إعلان النتائج النهائية) يكمن في أن القوات أحرزته بقوتها الشعبية الذاتية ومن دون «منة» من أحد. أما كتلتها في المجلس النيابي «المودّع» والبالغة ٨ نواب لم تكن لتتحقق في ظل القانون الأكثري السابق لولا تحالفات ومساهمات من المستقبل (في زحلة والكورة) والاشتراكي (في الشوف).

هذه النتيجة الكبيرة التي خرجت بها القوات وتضعها في مصاف القوى والأحزاب الكبيرة، سيكون لها انعكاس مباشر على الخارطة السياسية المسيحية وعلى موقع القوات ودورها السياسي، وعلى حصتها في الحكم والدولة بدءا من حكومة ما بعد الانتخابات.

٢- التيار الوطني الحر اجتاز قطوعا واختبارا دقيقا، وحافظ على «وضع مستقر» وخرج بنتيجة لا بأس بها من الفوز الانتخابي وليس الانتصار السياسي. ففي ظل قانون النسبية كان متوقعا للتيار أن يخسر مقاعد في معقله الأساسي جبل لبنان، ولكنه عوض ذلك في دوائر أخرى خارج جبل لبنان، ليحافظ في النتيجة على مستواه وحجمه. ولكن في ظل العهد الجديد ورئاسة العماد ميشال عون كان متوقعا ومفترضا أن يكسب التيار زخما ووقعا إضافيين ولكن ذلك لم يحصل، بدليل أنه كان بحاجة الى حلفاء يتمتعون بثقل شعبي سواء أكانوا أحزابا مثل الطاشناق في بيروت الأولى والمتن، أو أشخاصا مثل نعمة افرام في كسروان وميشال معوض في زغرتا.

يمكن للتيار الوطني الحر أن يبرر خسارته لبضع مقاعد في جبل لبنان بسبب القانون النسبي الجديد.

ويمكن له أن يقول إنه عوض هذه الخسارة وأن يتباهى بالإنجازات التالية:

- نجاح رئيسه الوزير جبران باسيل للمرة الأولى (وفي المحاولة الثالثة والثابتة) بأحد المقعدين في البترون وحصوله على «الشرعية الشعبية» التي كانت تنقصه، خصوصا أن هذا النجاح جاء مقرونا بإسقاط غريمه الأساسي هناك بطرس حرب.

- دخول التيار الوطني الحر لأول مرة ثلاث محافظات كانت مقفلة عليه أو خالية من أي تواجد وتمثيل له، وهي الشمال والبقاع وبيروت. ففي برلمان ٢٠٠٩ كان تمثيله مقتصرا على جبل لبنان والجنوب، والآن صار له (مع الحلفاء) ثلاثة مقاعد في الشمال ومثلها في بيروت (نقولا الصحناوي والطاشناق)، وفي البقاع (سليم عون وميشال ضاهر في زحلة، وإيلي الفرزلي في البقاع الغربي).

- دخول التيار للمرة الأولى في نطاق محافظة جبل لبنان قضاءي الشوف وعاليه مع نائبين هما ماريو عون وسيزار بو خليل (إضافة الى الحليف طلال إرسلان).

٣ - تيار المستقبل بزعامة الرئيس سعد الحريري كان أبرز الخاسرين والمتراجعين في هذه الانتخابات، حيث بلغ الحجم الأصغر له وأدنى مستوياته منذ العام ٢٠٠٥.

مع النظام الأكثري كانت كتلة المستقبل (تكتل لبنان أولا) تبلغ الـ ٣٥ مقعدا وتلامس عتبة الـ ٤٠ نائبا، وتراجعت الآن الى النصف تقريبا.

عانى تيار المستقبل متاعب وتحديات كثيرة في الأعوام الماضية لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن. وفي الأشهر والأسابيع الماضية نجح عبر حملة انتخابية مركزة لرئيسه سعد الحريري في تحسين وضعه، ولكن لم يكن بالقدر الكافي للخروج بفوز واضح. والمفاجأة تمثلت في أن الفوز المحقق جاء أقل من التوقعات التي كانت تعطيه كتلة بين ٢١ و٢٣ نائبا، وتمثلت الخسارة في النواحي التالية:

- عدم نجاح المستقبل في حشد أوسع مشاركة شعبية ممكنة، رغم كل دعواته المركزة في هذا الاتجاه.

وفيما كان نجاحه في بيروت (الثانية) خصوصا يتوقف على المشاركة الواسعة والكثيفة، فإن هذه المشاركة لم تتحقق وظهر أن الشارع السني لم يتجاوب ولم يتفاعل مع نداءات الحريري، وأن تيار المستقبل ومعه الطائفة السنية ما زالا في حال انعدام الوزن السياسي، وأن الشارع السني ما زال في حال إرباك وضياع ولم يستوعب بعد التحول السياسي الذي قام به الحريري الذي نجح في استثارة مشاعر وعواطف الطائفة السنية، ولكنه لم يتوصل الى إقناعها بسياسته وخياراته الجديدة المبنية على التسوية الرئاسية ومساكنة حزب الله.

- خسارة المستقبل موقع الصدارة في طرابلس وتكرس تحوله في عاصمة الشمال الى الرقم ٢ بتلقيه «الصفعة» الثانية في الانتخابات النيابية بعد الانتخابات البلدية، ولكن هذه المرة على يد نجيب ميقاتي الذي تقدم الى منصة الزعامة الطرابلسية والقوة الأساسية المنافسة للحريري.

- التراجع المثير في صيدا حيث نجحت النائب بهية الحريري ولكن لوحدها ومع كتلة أصوات متراجعة مقارنة بما كان عليه الأمر مع آخر انتخابات أعطت فيها صيدا للمستقبل نحو ٢٤ ألف صوت، فيما لم تعط هذه المرة أكثر من عشرة آلاف صوت... وهذا التراجع يعود من جهة الى الفراغ الذي أحدثه انسحاب السنيورة والى سوء إدارة العملية الانتخابية مع عدم وجود حليف مسيحي، وتحديدا التيار الوطني الحر الذي «شبك» مع الجماعة الإسلامية وعبدالرحمن البرزي، في وقت كان الثنائي الشيعي يخوض معركة أسامة سعد.

- الخرق الواسع للمقاعد السنية من جانب حلفاء حزب الله أو من يسمون سنة ٨ آذار. فمقابل الكتلة الشيعية المتراصة، ظهر تشتت وتبعثر في الكتلة السنية وخسر المستقبل مقاعد سنية كثيرة لمصلحة حزب الله مع حلفائه: عبد الرحيم مراد (البقاع الغربي)، أسامة سعد (صيدا)، فيصل كرامي (طرابلس)، جهاد الصمد (الضنية)، عدنان طرابلسي (بيروت)... هذا من دون احتساب مقاعد الرئيس ميقاتي وفؤاد مخزومي، والمقعدين السنيين لحزب الله في بعلبك (الوليد سكرية) وللرئيس بري في الجنوب الحدودي (هاشم قاسم).

التراجع في الحجم السياسي للرئيس الحريري سيكون له تأثير على مجريات المرحلة المقبلة واستحقاقاتها، بدءا من الاستحقاق الحكومي، وحيث يبدو أنه مع انتهاء مفاعيل التسوية الرئاسية بانتهاء ولاية المجلس الحالي، أن بقاء الحريري في رئاسة الحكومة ليس أمرا محسوما ومنتهيا و«مجانيا»، وإنما مسألة خاضعة للدرس والمراجعة وربط تجديد العقد معه بشروط جديدة، أولها فك ارتباطه بباسيل أو على الأقل الحد من وطأة هذه الثنائية وقدرتها في التحكم والاستئثار بالتعيينات والمشاريع والسلطة.

٤ - حزب الله بدا أنه أكبر المستفيدين من القانون الجديد، وخرج مع حليفه الرئيس نبيه بري بفوز واضح وانتصار سياسي لجهة التأكيد على:

- تماسك الطائفة الشيعية التي أعطت كل مقاعدها للثنائي.

- التفاف الشيعة حول خيار حزب االله رغم الكلفة الباهظة في سورية والضغوط الدولية والعربية.

- تمتع حزب الله بقوة شعبية ومقومات الحزب السياسي الذي لديه (مع حلفائه) أكبر كتلة نيابية. وفي ذلك رد عملي وعبر مسار سياسي ديموقراطي على التصنيفات والتوصيفات المعطاة له كمنظمة إرهابية.

- حصول حزب الله مع الحلفاء المباشرين على الثلث المعطل في برلمان ٢٠١٨ (43)، وحصوله مع حليفه التيار الوطني الحر على أكثرية النصف زائد واحد (٦٥).

٥ - احتفاظ جنبلاط بحجمه النيابي وكتلة نيابية متناسبة مع حجمه الشعبي والواقعي، ومتخطيا ضغوطات وتحديات القانون النسبي.

ولكن جنبلاط يسلك مسارا تراجعيا (من ٢٨ نائبا برلمان ٢٠٠٥ الى ١١ نائبا برلمان ٢٠٠٩ الى ٩ نواب برلمان ٢٠١٨). وفي هذه الانتخابات مارس سياسة الحد من الخسارة ونجح فيها، ولكنه لم ينجح في الاحتفاظ بدوره وموقعه كـ «بيضة قبان» وقوة ترجح في البرلمان والحكومة، وقبل كل ذلك كان فقد دوره القيادي في معسكر ١٤ آذار. ويبدو أن الدكتور سمير جعجع الذي أخذ دور جنبلاط القيادي في ١٤ آذار سيأخذ دوره الترجيحي والمؤثر في المجلس والحكومة.