بالعودة الى التاريخ، فإنّ مجموعات أحداث الضنية ومجدل عنجر التي شملها قانون العفو العام سنة 2005 كانت أساساً في التحرّكات الإرهابية التي حصلت لاحقاً، وهو ما يؤكّد خطورة قانون العفو العام، خصوصاً بعد الدراسة الإجتماعية التي قُدّمت للمسؤولين والتي تشير الى أنّ الموقوفين في حال خرجوا من السجون يشكّلون أزمةً في لبنان الذي يتطلّب مزيداً من الشدة وليس التساهل، علماً أنّ سجونَه لا تمتّ للإصلاح بصلة، بل تُخرّج موقوفين أكثرَ إجراماً وخبرةً وتمرّساً
 

تعود قضية قانون العفو العام لإحدى جلسات المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حين طُرح موضوع له علاقة بما كان يُسمى وثائق الإتصال الصادرة عن الجيش وعن الأمن الداخلي والتي تُعتبر مذكرات غير قضائية، تصدر على خلفية حدث أمني بناءً على شبهة ما، ترتكز على إخبار أو معلومة أو نتيجة تحقيق أو تحرّيات قام بها جهازُ الاستخبارات، وتعمَّم على حواجز الجيش وفصائل قوى الأمن والشرطة العسكرية، علماً أنّ هذه المعلومات قد لا تكون دقيقة والتي تسبّبت بمشكلات لعشرات ألاف الناس الواردة أسماؤهم فيها، فطُلب آنذاك ايجاد حلّ لهذا الملف ولملف الموقوفين الإسلاميين نتيجة الضغوط التي مارسها دار الفتوى والأوساط الدينية السنّية.

في تلك الجلسة بحث عون مع فريق عمله عن كيفية التوصّل لحلول في هذه المجالات، فكان هناك توجّهٌ لإصدار عفو عام، وطلب من وزير العدل وقتها درسَ هذا المشروع وكيفية إيجاد صيغة لإصداره من دون المساس ببعض القضايا الأساسية وتفادي حصول مشكلات في البلد ببعض الأمور ومنها موضوع شهداء الجيش أو الإعتداء على الجيش حيث لم يكن مقبولاً أن يطاول القانون المتهّمين في هذه القضايا.

قدّم وزير العدل تصوّراً لمشروع قانون العفو، يتضمّن مجموعة نقاط أهمها أن يشمل كافة الجرائم والجنح ومذكرات التوقيف وبلاغات البحث والتحرّي الصادرة عن السلطات القضائية والبرقيات المنقولة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، على أن يكون الإستثناء الوحيد كل ما هو مصنّف تحت خانة الإرهاب، وتمّ تقسيم المستفيدين من مشروع القانون الى فئات عدة:

• أولها الجرائم الصادرة فيها أحكام قضائية وبعضها بالإعدام علماً أنه لا ينفّذ منذ التسعينات.

• الجرائم الواقعة قبل تاريخ إصدار هذا القانون والتي لا زالت في المحاكم.

• الجرائم الصادرة فيها أحكام غيابية.

• الجنح الصادرة فيها أحكام الموقوفين الذين يحاكَمون حضورياً أو غيابياً.

تبيّن أنّ أبرز الذين سيستفيدون من هذه القوانين يبلغ عددهم نحو 40 ألف موقوف أو متوارٍ:

• غالبيتهم في قضايا ترويج مخدرات وسرقة سيارات وجرائم قتل ينتمي الجزء الأكبر منهم الى الضاحية الجنوبية وبعلبك والهرمل، أي إنّ معظمهم من الطائفة الشيعية وهو ما يهم «حزب الله».

• أما الفئة الثانية فيطلق البعض عليهم تسمية «عملاء» إذ إنهم كانوا منتسبين لجيش لبنان الجنوبي (جيش لحد) يوم كانت إسرائيل في الشريط الحدودي، وغادروا في أيار الـ2000 مع الإنسحاب الإسرائيلي ويبلغ عددهم نحو 7500 شخص، وكان عون من الأساس طالب بإيجاد حلّ لعودة هؤلاء الأشخاص.

• أما الفئة الثالثة فتشمل الإسلاميين الموقوفين الذين يبلغ عددهم حوالى الـ1500 الى 1700 شخص تمتدّ فترة توقيفهم من معارك نهر البارد حتى فجر الجرود، وهم من الطائفة السنّية، ويشكّلون الإشكالية الأكبر وفي غالبيتهم متّهمون بقضايا لها علاقة بالإعتداءات على الجيش، وعدد الصادر بحقهم أحكام يبلغ نحو 150، وفي كل فترة كان يُعاد البحث في الموضوع وفي تفعيل المحاكمات وتسريعها، إلّا أنّ الملف بقي معرقلاً نتيجة عوامل عدة منها قضائية ومنها ما هو متعلق بالإمكانات اللوجستية وغيرها، رغم إنشاء محكمة خاصة لهم في رومية لتسريع المحاكمات.

أسباب عرقلة القانون

إصطدم المشروع الذي كان يحضَّر بعقبتين سياسيتين أساسيتين:

• العقبة الاولى: موضوع الإسلاميين الذي يشكّل عون رأسَ حربة الرافضين له، وهو باستقباله أهالي العسكريين أكّد أنه يستحيل شمول القانون أيّاً من المعتدين على العسكريين.

• العقبة الثانية: موضوع الهاربين الى إسرائيل أو الى بلدان أجنبية من الذين كانوا على الشريط الحدودي والذين يعترض عليهم «حزب الله» ويصنّفهم كـ«عملاء» ويرفض أن يشملهم أيُّ عفو.

وفي الخلاصة، أراد رئيس الحكومة سعد الحريري أن يحلّ موضوع الإسلاميين الموقوفين وهو ما يعني طائفته لأهداف سياسية وشعبية، وبدوره أراد «حزب الله» الشيءَ نفسه لجهة إيجاد صيغة وتسوية للموقوفين الشيعة من الضاحية والبقاع، إلّا أنّ عرقلة القانون شكّلت أزمة إنتخابية لهذين الطرفين، حيث إنّ هؤلاء الموقوفين يشكّلون من جهة كتلة إنتخابية لا يُستهان بها في بعلبك الهرمل، قد تصبّ ضد «حزب الله» و»حركة أمل» بعدما وعدهم «الثنائي الشيعي» بحلّ مشكلة أبنائهم وهو ما لم يحصل، كما أنّ الإسلاميين من جهة أخرى يشكلون كتلة انتخابية قد يؤثر خذلانها سلباً على «التيار الأزرق».

إضافة الى ذلك، كانت الأحزاب المستفيدة من العفو تتحضّر لصدور القانون قبل الإنتخابات النيابية لأنه يعيد للموقوفين أنفسهم الحقوق المدنية والسياسية كافة وبالتالي يعود لهم حقّ الإقتراع في الإنتخابات، وتتعامل الدولة معهم كأنهم لم يرتكبوا جرائمهم.

تاريخ قوانين العفو

عايش لبنان حقباتٍ عدة طُمست خلالها الجرائم، وعاد مرتكبوها محمولين على الأكف كالأبطال، فيما لا يزال الضحايا يُدفنون كل يوم ألف مرة، فصدر قانون العفو عن الجرائم المرتكبة خلال أحداث الـ58، وقانون العفو عن الجرائم المرتكبة عام الـ67، كذلك صدر عام 1991 عفو عن الجرائم التي حصلت خلال الحرب اللبنانية باستثناء الجرائم التي كانت محالة على المجلس العدلي، وصدر قانون آخر عام 1995 شمل أحد النواب من آل شمص الذي كان موقوفاً في قضايا مخدرات وغيرها ونفّذ عام 1996، وأخيراً قانون العفو عام 2005 والذي شمل رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ومجموعات أحداث الضنية ومجدل عنجر.

إذاً، تكمن الخطورة الأساسية في ما خصّ هذا القانون من جهة تكرار الجرائم خصوصاً وأنّ عقوبة الإعدام لا تُنفَّذ، وأنّ السجون في لبنان غير تأهيلية. وعلى قاعدة «قتلوا وبكرا بيشملك العفو» فإنّ أحداً لن يحلم ببناء دولة حقيقية.