لم تنتهِ الحرب في سوريا بعد، لا بل بدأت «حروب ما بعد (داعش)»، وتظل سوريا تشكل حلقة وصل خطيرة لتداخل الصراعات الإقليمية فيها والقوى العظمى، على الرغم من هزيمة «داعش» في شرقها. والمواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل في سوريا، ليست سوى واحد من الاحتمالات التي من شأنها أن تغذي المرحلة المقبلة من الحرب الأهلية في سوريا.
فتحت تركيا صراعها المباشر ضد «وحدات حماية الشعب الكردية السورية» في عفرين الكردية شمال سوريا. كما تتنافس تركيا وإيران وروسيا في صراع ثلاثي حول المستقبل البعيد للمعارضة في إدلب، ومن علامات التنافس إسقاط طائرة «سوخوي - 25» في الثالث من فبراير (شباط) الحالي. ويصادف الائتلاف الأميركي مواجهات مكثفة مع الائتلاف الروسي - الإيراني بعدما صدت أميركا هجوماً ضخماً مؤيداً للنظام في دير الزور في 7 من الشهر الحالي، وكانت إيران و«حزب الله» استغلا شروط تخفيف مناطق التصعيد التي توسطت فيها روسيا والأردن والولايات المتحدة في جنوب سوريا، من أجل تطوير بنية تحتية عسكرية على طول هضبة الجولان، وقد فشلت إسرائيل وأميركا في وقف هذا الاتجاه أو عكس توجهه. وأكدت إسرائيل مراراً «حريتها المطلقة» في العمل كرد فعل للانتهاكات المستقبلية لخطوطها الحمراء من قبل إيران، بما فيها بناء إيران قاعدة عسكرية دائمة في سوريا، ونقلها أسلحة متطورة إلى «حزب الله» عبر سوريا. وتخشى إسرائيل من أن تستخدم إيران الأراضي السورية لشن هجمات، أو إنشاء ممر أرضي من إيران إلى لبنان بعد سقوط البوكمال (على الحدود العراقية - السورية)، يسمح لها بنقل الأسلحة بسهولة أكبر إلى «حزب الله».
إن التزايد المتصاعد لهذه الحوادث ليس من قبيل المصادفة، بل النتيجة التي يمكن التنبؤ بها من تصاعد «الحروب بعد داعش» في سوريا. خصوم أميركا في سوريا يريدون إبعادها من هناك ومن كل الشرق الأوسط على المدى البعيد، وفق ما يعتقدون.
لقد هاجمت روسيا وإيران عمداً القوات الأميركية وشركاءها في شرق سوريا. شن مئات من المقاتلين المناصرين للنظام السوري هجوماً منسقاً ضد «القوات الديمقراطية السورية» الأكثر اعتماداً من قبل أميركا، في مقاطعة دير الزور، فردت الولايات المتحدة بضربات ناجحة لحماية تلك القوات، فقتل أكثر من 100 جندي سوري. وحسب مصادر مطلعة خططت روسيا وإيران والنظام السوري لهذه العملية في وقت مبكر، وبدأوا التحضير للهجوم قبل أسابيع بهدف زيادة الوجود الإيراني شرق نهر الفرات للاستيلاء على حقول النفط والغاز. منذ أشهر تحاول روسيا وإيران عسكرياً وصل مناطق شرق الفرات التي تسيطر عليها «القوات الديمقراطية السورية» بما في ذلك مدينة الرقة، وكذلك حقول النفط والغاز الطبيعي شرق سوريا، وتسليمها إلى النظام السوري. وتعتبر حقول النفط والغاز حاسمة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد السوري ونظام بشار الأسد، كما أنها توفر مصدراً للإيرادات يدعم الجهود الروسية - الإيرانية. وشارك في الهجوم متعاقدون عسكريون روس من القطاع الخاص، (قتل البعض منهم) و«حزب الله»، في هذه الأثناء أكمل الضباط الروس التواصل المستمر مع العسكريين الأميركيين. روسيا دعمت الهجوم، إنما ادعت بأنها بذلت جهداً لمنعه من أجل إرباك صناع القرار الأميركي.
من جهتها، تنجح تركيا في حملتها ضد القوات الموالية للنظام في شمال غربي سوريا. وقصتها أبعد من عفرين. وستواصل تركيا إعطاء الأولوية من أجل الحفاظ على ملاذ آمن للمعارضة السورية في محافظة إدلب التي يسيطر عليها تنظيم القاعدة ونشرت القوات المسلحة الكردية قافلة تضم أكثر من 100 عربة مدرعة لإنشاء مركز مراقبة بالقرب من مدينة العيس، وهي موقع رئيسي على خطوط المواجهة بين جماعات المعارضة والقوات الموالية للنظام جنوب مدينة حلب. ويجري العمل تركياً على إقامة «نقطتي مراقبة» إضافيتين في مواقع غير محددة شمال سوريا. أيضاً استغلت تركيا خطة تخفيض التصعيد في مقاطعة إدلب وأجزاء من محافظة حلب التي جرى الاتفاق عليها بوساطة من روسيا وإيران وتركيا في محادثات آستانة.
يقول مراقبون إن تركيا تسعى للحصول على ضمانات جديدة من روسيا للحفاظ على سلامة قواتها في محافظة إدلب، غير أن هذه الضمانات لا تزال غير كافية. ويعتزم الرئيس السوري بشار الأسد، حسب المراقبين، وبالاتفاق مع إيران على تعطيل أي اتفاق يكرس وجوداً طويل الأمد لتركيا في سوريا. وتنظر إيران إلى عملية الانتشار التركي على أنها محاولة لعرقلة هجوم مستقبلي من مؤيدي النظام لرفع الحصار عن مدينتي فوعا وكفريا الشيعيتين، قرب مدينة إدلب.
من ناحية أخرى، يمكن أن تحاول تركيا استغلال هذه التوترات لدك إسفين بين روسيا وإيران حول منطقة تخفيض التصعيد في محافظة إدلب الكبرى، وهناك احتمال بأن تصعّد تركيا مشاركتها في محافظة إدلب جزئياً كرد فعل على استمرار تقدم النظام والموالين له باتجاه بلدة سراقب الرئيسية التي تسيطر عليها المعارضة في محافظة إدلب. وتقع سراقب على طول الطريق السريع إم - 5 الاستراتيجي بين مدينة حماة ومدينة حلب، وتوفر أرضية انطلاق مثالية لعمليات نحو الفوعا وكفريا أو مدينة حلب.
نشرت تركيا قوات في محافظة إدلب بعدما أعلنت حركة تحرير الشام (فرع تنظيم القاعدة في سوريا) مسؤوليتها عن إسقاط السوخوي الروسية في إدلب، وقد تكون تركيا وفرت منظومات الدفاع الجوي المحمولة، للإشارة إلى عدم رضاها عن الحملة الجوية الروسية المستمرة لدعم قوات النظام في إدلب. وكانت قدمت من قبل معدات عسكرية لقوات المعارضة في محاولة لوقف الهجوم المتواصل للنظام باتجاه قاعدة «أبو الظهور» الجوية في محافظة إدلب الشرقية. وستواصل تركيا إعطاء الأولوية لجهودها لحماية عملياتها الجارية ضد «وحدات حماية الشعب الكردية السورية».
أيضاً يبدو أنه رغم كل التصريحات المطالبة بضبط النفس، فإن إسرائيل والائتلاف الروسي - الإيراني على استعداد للمواجهة في المستقبل على مرتفعات الجولان. ونجحت إيران و«حزب الله» في تشكيل شبكة من المقاتلين الأجانب والمحليين، عبر سوريا تحت مظلة القوات المسلحة الروسية، كما استغلت إيران و«حزب الله» شروط خفض التصعيد في المناطق المتاخمة للجولان. كل طرف يعمل لمصلحته في سوريا، ولا يهم أي طرف استمرار قتل السوريين أو تدمير البلاد. ضمانة روسيا لبقاء بشار الأسد غير مضمونة، إذا كانت مصالحها تتطلب ذلك، قد تكون ضمانة إيران أكثر صدقاً لأنها لن تجد بديلاً عنه يسمح لها باستباحة سوريا. كذلك فإن علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لن تتفوق على مصالح روسية في سوريا. وما كان باستطاعة إيران و«حزب الله» إقامة قواعد لهما في الجنوب السوري لولا غض النظر الروسي، رغم قول سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي إنه لم يكن يعلم بوجود قاعدة إيرانية في تدمر.
إذن، إن الحرب الأهلية السورية لم تنتهِ بعد، إذ بدأت حروب ما بعد «داعش» فيها. وحاولت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة أن تركز على قتال «داعش»، متجاهلة السياق الأوسع للحرب الأهلية الإقليمية في سوريا. وأثبتت الأحداث الأخيرة أن هذا الفصل الاصطناعي، ليس بمستدام.
القوات الأميركية الخاصة موجودة في سوريا، وقال «البنتاغون» يوم الاثنين الماضي ببقاء 6 آلاف جندي أميركي في العراق وسوريا. إن الوضع يستدعي من الولايات المتحدة أن تضع استراتيجية متماسكة لمواجهة هذا الواقع الجديد كي لا ترى نفسها متورطة في المرحلة المقبلة من الحرب في سوريا.
والغريب أن حلفاء بشار الأسد يقولون إنه انتصر في الحرب، ليت أحداً منهم يعطينا تفسيراً لمعنى هذا الانتصار.