يعجز النظام اللبناني في هذه اللحظة عن الاستمرار في أداء أبسط وظائفه؛ من فشل آليات الحكم والقرار وصولاً إلى غياب توافق الأفرقاء على قانون انتخابي تحت مظلّته. وضعٌ يطرح مجموعة أسئلة حول مصير النظام وإمكانات تغييره.
مشكلة قانون انتخابي أم مشكلة نظام؟
ليس قانون الانتخابات سوى أداة من أدوات أي نظام ليستوعب الخلافات ضمنه ويجد صيغة لحلها. المشكلة تكمن في طبيعة النظام. ولكن القول إنّ هناك مشكلة فقط يبدو سريعاً. يُمكن أياً كان ملاحظة أنّ هذا النظام أضحى، منذ الخروج السوري من لبنان، عاجزاً عن أبسط المهام، أكان على صعيد إدارة الدولة ـــ من التعيينات إلى الموازنة إلى اجتماع مجلس النواب ـــ أم على صعيد الركون إلى آليات عمله الشكلية ليحل الخلافات ضمنه. والنتيجة تكون بأنّ قرارات مجلس الوزراء لا تُطبّق، ولا عودة للتصويت في مجلس النوّاب، بل تتمّ الحركة فيه عبر مشاورات جانبيّة، وصولاً إلى ابتكار يُعدّ الأغرب على الإطلاق هو «طاولة الحوار».
هذا النظام، كمجموعة من القواعد ترعى إدارة شؤون الدولة وحل النزاعات، بات معطلاً.
ولكن هل مقوّمات المشكل واضحة؟ بالتأكيد لا. لأنّ هناك فئة تقف مع النظام ولكنها تشكو من تعطّله. وهناك، في المقابل، فئة ضد النظام من أساسه ولها مصلحة في استغلال هذه المرحلة ليس لإصلاحه بل لتغييره. هنا، الفارق شاسع. والواقع أنّ كلمة «مشكلة» تدمج هذين التوجّهين المختلفين.
هل هناك فرصة للتغيير؟
لم يحصل في التاريخ أن قوى معينة عمدت إلى تغيير نظام تزدهر مصالحها فيه. يصعب تخيّل ذلك فعلاً لأنها هي النظام وهي المستفيدة منه، ومن مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الناس في تعاطيهم، وتحظى برضى واسع وصولاً إلى التأييد الحماسي.
التغيير يصير كحدث استثنائي. عندما يحصل تعطّل جسيم في أداء النظام مثلاً، أو عندما يتعرض لتعديل في الظروف الخارجيّة التي كانت تحكمه وترعى استمراره. في لحظة كهذه، ينسلخ البعض عن النظام ويدخلون في آليّة، تكون ضبابية وملتبسة في بداية المطاف، لتُصبح تغييرية فعلاً في نهايتها.
في حالة لبنان، ولدى استعراض القوى النافذة المستفيدة من النظام وإمكانيات التغيير، لا بدّ من العودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى تلك الفرصة التي سنحت في لحظة معيّنة عندما دخل عدد لا يستهان به من اللاعبين السياسيين على النظام بشكل متزامن. وتحديداً بين عامي 2005 و2006، أو بعد اتفاق الدوحة مباشرة.
سعد الحريري، مثلاً، كان جديداً على اللعبة، كذلك ميشال عون، وسمير جعجع، أما السيد حسن نصر الله، فقد كان بين هاتين الفئتين، لأنّ خروج السوريين غيّر موقعه من النظام جذرياً.
كانت هناك إمكانية، في ظرف معين، أن يتوجه الجميع صوب إحداث تغيير معيّن، عوضاً عن إجراء تعديلات في الحصص ضمن النظام لحجز أماكن فيه؛ هذا التوجّه لم يحصل. هل يُمكن أن يحصل مستقبلاً؟
هناك شكّ كبير، لأنّ وقتاً لا بأس به مضى على تلك الفرصة، ولكن اليوم هناك قوى نافذة ذات توجه فعلي، وليس افتراضي، لتغيير النظام.
حركات مطلبيّة أم تيارات سياسيّة؟
النظام ليس عصابة معينة تفرض نفسها على الناس. وبالتالي فإنّ الكلام عن «طبقة سياسية فاسدة» يُمكن إزالتها وإجراء التصحيح يشي بعدم فهم لمعنى كلمة «نظام» ولآلياته. لذلك فإنّ السؤال والظرف يفترضان تحديد إمكانات دعم الحركات المختلفة التي تقدر على حشد قوى اجتماعية ذات وزن، والمراهنة عليها لإحداث خرق يُعطّل النظام ولا يتماهى معه.
يُمكن الحديث عن عامودين أساسيّين للنظام حالياً: الأول هيمنة رأس المال، وتحديداً رأس المال المضارب. والثاني هو التأطير الطائفي للغالبية العظمى من الناس.
في الواقع، أيّ تحرك مطلبي ينتهي في التأطير السياسي القائم لا فائدة مباشرة له. فلنأخذ مثال مياومي الكهرباء وتحرّكهم الاحتجاجي الذي استمرّ قرابة مئة يوم. مجرّد قرب هذه الفئة العمالية من طائفة معينة ومرجع سياسي معين عنى مباشرة أنّها غير قادرة على إحداث خرق بسبب إمكانية تأطيرها ووقوف فئات سياسية في مواجهتها.
في هذا المجال، يبدو تحرك هيئة التنسيق النقابية ذا أهميّة خاصّة، لأنّ هذا التحرّك لا يتماهى مع آليات النظام ولا يتماهى مع سيره.
في المقابل، يصعب التعويل على حركة سياسية عامة لإحداث الخرق المنشود. فالوعظ والشرح الذي يُمكن أن تُقدّمهما هكذا حركة سياسيّة يُمكنهما استثارة التأييد والإعجاب ولكنهما لا يغيّران سلوك الناس.
هؤلاء يمضون في سلوكهم لأنّهم لا يرصدون البديل، إذ ليس بالضرورة اعتبار النظام ممتازاً لكي ينضوي الفرد تحت لوائه. يكفي أن يراه أفضل نسبياً من أي شكل آخر يعتبره متاحاً، لكي يقبله ويدافع عنه.
لنأخذ، مثلاً، رضى اللبنانيين بحكم الميليشيات خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي. هل كانوا فرحين بهم؟ بالتأكيد لا. ولكن تلك الصيغة كانت أفضل لهم من الحرب المفتوحة، لأنه على الأقل كان بإمكانهم القول إنّ «الحياة شبه طبيعية في منطقتنا».
كذلك، لم يكن الناس معجبين كثيراً باتفاق الطائف، ولكنّ صيغة السلم التي فرضها كانت أفضل من تلك التي كانت مفروضة في عهد الميليشيّات أيام الحرب. وبالتأكيد لم يكن الناس مولعين بالحكم الذي كان يُمسكه السوريّون، ولكنّهم رضوا به لأنّ بديله سيكون الفوضى.
يكفي الرضى إذاً، وليس بالضرورة الحماسة، للقبول بنظام قائم. وبالتالي إذا نشأ تيار سياسي جديد ليُكرّر أنّ «النظام وطبقته السياسية سيّئان» لن يُضيف جديداً على فهم المواطن للوضع، فالمواطن يعي ذلك؛ كل تيّار تغييري مطالب ببلورة صيغة بديلة وإظهار إمكانية فوزها.
وبالتالي، الخرق لا يحدث بالتبشير والتنوير، بل بتعطيل آليات معينة وإحداث شرخ واضح في النظام. بصيغة أخرى، الخرق يحدث عندما يبدأ الناس بالاصطفاف على خطوط وجداول أعمال مختلفة عمّا يستطيع النظام إدارته.