يأتي خطاب «حال الاتحاد» الأوّل للرئيس دونالد ترامب أمام الكونغرس الأميركي في أعقاب خطابه أمام «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس حيث طمأنَ أكثر ممّا تَوقّعه الحاضرون وحيث أُخِذ بجدّيةٍ مقارنةً مع أنماط الاستهزاء السابقة. خطابُه كان رئاسياً، عكس تغريداته التي تتَسم أحياناً بالاعتباطيّة والهزليّة. إنّما تقبُّل عالمِ دافوس له لم يكن حصراً نتيجة خطاب وإنّما هو في الواقع بسبب ما تركَته سياساتُ وشخصيّةُ دونالد ترامب من آثار على الاقتصاد الأميركي والعالمي. فالكلّ في تفاؤل في عالم المال والرخاء وفي الدول البعيدة عن الحروب والفقر واليأس والبؤس. دونالد ترامب جعَل من التفاؤل بـ«أميركا أوّلاً» سلعةً مفيدة لإنماء الوضع الاقتصادي الأميركي والعالمي. رسالةٌ كهذه تُطمئن الشعب الأميركي عندما تأتي من منصّة الكونغرس في الخطاب التقليدي الذي يُلقيه كلّ رئيس أميركي سنوياً للتحدّثِ عمّا أنجَزَه منذ تسلّمِه السلطة. رسالته البراغماتيّة لبقيّة العالم من دافوس شرَحَت أنّ القصد من «أميركا أولاً» ليس أميركا التي تَستفرد وتنفَرد أو أنّ القصد هو «أميركا وحدها». هكذا بجملةٍ مدروسة تمكّنَ ترامب من تغيير آراء عديدة نحوه وحَشد كثيرين وراءَه كانوا بالأمس من جماعة المستَهزئين. التّحدي الذي يُواجهه أمام الشعب الأميركي ما بعد خطاب «حال الاتحاد» هو مدى تمكّنِه من إقناع الأميركيّين أنّ دونالد ترامب أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركيّة هدفُه لمُّ الشّملِ، وليس دونالد ترامب الذي استَخدم الانقسام أداةً لتسويق آرائه وأهدافه الضيّقة فزادَ من الفجوة العميقة بين الأميركيّين. المسألة الأخرى التي تُشكّل القاسم المشترك بين الاهتمامات الأميركيّة والاهتمامات الدولية تصبّ في خانة الأمن القومي الأميركي وكيفية تعريف إدارة ترامب لمتطلّباته. هنا تَبرز روسيا والصين والعلاقات مع الحلفاء الأوروبيّين في فرزِ سياساتٍ كتلك نحو إيران. وفي هذا الصّدد، واضحٌ أنّ ما تمّ إنجازُه عشية إلقاء دونالد ترامب خطابَ «حال الاتحاد» هو ذلك التماسك أخيراً، بين أركان الإدارة في تنظيم العلاقات فيما بينها وفي صياغة التوجّهات الرئيسيّة. وهذا ما ترَك أثرَه بوضوح على العلاقات الثنائية على رأسِها مع روسيا، بالذات عبر البوابة السوريّة، وكذلك على القرارات الاستراتيجيّة المعنيّة بالشرق الاوسط، من العلاقة بالسعودية إلى محاربة الإسلام الراديكالي بكلّ طوائفه.
وزير الخارجية ريكس تيليرسون تأقلمَ مع قادة إدارة ترامب واستراتيجيّاتهم، فلم يعد يُغرِّد خارج السّرب وإنّما عدَّل من شخصيّته ونهجه وسياساته وبات ضِمن فريق اللاعبين وأبرزُهم على مستوى السياسات الكبرى والأمن القومي هو مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر.
أولى محطّات إعادة اختراع تيليرسون لنفسه - إذا جاز التعبير - هي في العلاقات مع روسيا. لكنّه ما زال بحسب تقويم بعض اللاعبين الكبار، يتعثّر في استيعاب ما يُريده الرئيس ترامب في العلاقات الأميركية - الخليجية. فهو «بطيء» بحسب قول أحدهم في فَهمِ مركزيّة العلاقات التحالفيّة مع السعودية والإمارات في السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط بأبعادها القطريّة، لكنّه بدأ استيعابها جيّداً بأبعادها الإيرانية. تيليرسون اعتقدَ لفترةٍ طويلة أنّ عبء معالجة الأزمة مع قطر يقع على أكتاف السعودية والإمارات فيما أولوية إدارة ترامب ارتكزَت إلى الحفاظ على تماسكِ مجلس التعاون الخليجي ورأت أنّ قطر تُخرّب هذا التماسك الضروري للهدفين الأساسيَّين: محاربة الراديكاليّة الإسلامية السنّية والراديكالية الإسلامية الشيعية، والتصدّي لمشاريع إيران الإقليمية.
تحرّك تيليرسون هذا الأسبوع في الملف الإيراني تماماً حيث قرَّرت الاستراتجيّة الأميركيّة نقطة الانطلاق، أي مع الحلفاء الأوروبّيين وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا - الدول الثلاث المتعلّقة بالاتفاق النووي مع إيران. بدأ وزير الخارجية حديث «العزم» الأميركي على تعديلات وشروط تُحسّن الاتفاق و«العزم» على تَمزيقه إذا رفَض الشركاء الأوروبّيون فَهم الرسالة. تحدَّث بلغةٍ ديبلوماسية لكنّ الفحوى كان صارماً يعكس تيليرسون الجديد.
تيليرسون الجديد أوضَح للأوروبّيين أيضاً ولكلّ من يَعنيه الأمر في روسيا أنّ القرار الأميركي الاستراتيجي هو كَبحُ التوسّع الإيراني الإقليمي في المحطة السورية بالدرجة الأولى. هناك بالذات ممنوع انتصار إيران وممنوع عليها أن تُترجم مشاريعها إلى إنجازات ميدانيّة.
هناك في المحطة السورية اضطرَّ وزير الخارجية الأميركي الى تصعيد الوتيرة مع روسيا فأصرَّ على تحميل موسكو مسؤوليّة الهجمات الكيماويّة الأخيرة في سوريا، قائلاً من العاصمة البولندية قبل أيام إنّ «الاستخدام غير المقبول للمواد الكيماويّة ينتهك كلَّ الاتفاقات التي وقّعت عليها روسيا». وأضاف: «نُحمّل روسيا مسؤوليّة التعامل مع هذا الملف، فهُم حلفاء الرئيس السوري بشّار الأسد، وهم جزء من هذه الاتفاقيات وقدّموا التزامات عليهم الإيفاءُ بها». روسيا ترفض هذه الاتهامات إلّا أنّها كانت منعت مع الصين محاولة فَرضِ عقوبات على سوريا في مجلس الأمن بسبب استخدام الأسلحة الكيماوية، معتبرةً أنّ تيليرسون «تَسرَّع في اتّهام النظام السوري، كما يُسمّونه، بشنّ الهجمات على الغوطة الشرقية»، وأنّ واشنطن «تُحاول الآن جرَّ روسيا» إلى المسألة.
واشنطن ماضية بفرضِ العقوبات على الأفراد والكيانات المتورّطة باستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، وهي عازمة على تحدّي الحماية الروسية والإيرانية للنظام في دمشق. هذا قرار اتّخَذه مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع، تُنفّذه الآن وزارة الخارجيّة بعد انتهاء فترة التردّد.
في سوتشي هذا الأسبوع، كان واضحاً أنّ وزارة الخارجية الأميركية تلكّأت في البدء في تنفيذ سياسة الحزمِ مع موسكو ومنعِها من فَرض التسوية السياسيّة التي تُريدها لسوريا، لذلك تدخّلَ مجلس الأمن القومي لإيضاح ما يَجب إيضاحه لوزارة الخارجية. وعليه، قاطعت الولايات المتّحدة الاجتماع المهمّ للكرملين، وقاطعَته أيضاً «هيئة التفاوض» للمعارضة السوريّة بالرغم من تمسّكِ موسكو بعَقده في موعده ومشاركة المبعوث الدولي ستيفان ديماستورا فيه وبالرغم من التطمينات التي تلقّاها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من وزارة الخارجية الروسية.
مصادر الأمم المتّحدة اعتبَرت أنّ موافقة الحكومة السوريّة على المبادئ الـ 12 التي وضَعَها ديماستورا بعدما كانت رفضَتها لشهور، تطوُّر مهمّ وإيجابي، سيّما إذا جاء في البيان النهائي للقاء سوتشي. هذه «مبادئ ما فوق الدستور» قال المصدر تتناول مستقبل سوريا، ملمّحاً الى أنّ هذه هي التّطمينات التي تلقّتها الأمم المتحدة مؤكّدة أنّ قبول دمشق بها بعدما كانت رفَضَتها قطعاً يُشكّل «انتصاراً كبيراً للأمم المتحدة».
واشنطن لا تَثق بالوعود السوريّة أو الروسيّة، وهي تُريد من ديماستورا التّركيزَ على مضمون الدستور والنقاط التي يجب إصلاحُها في الدستور على نسَق صلاحيّات الرئيس وصلاحيات رئيس الوزراء، واستقلال القضاء، وشكل البرلمان، وإصلاح الأمن، والقانون الانتخابي، وضمان الحقوق والحرّيات. هذه المبادئ أتت في ورقة أميركية - فرنسية - بريطانية- سعودية - أردنية اعتبَرها ممثّل النظام السوري في محادثات فيينا بشّار الجعفري بأنّها «كوميديا سوداء» لسياساتٍ «تخريبيّة».
واشنطن استَمعت جيّداً وبدأت تهيئة الجواب. فسوريا مهمّة في السياسات الأميركية نحو كلٍّ من إيران وروسيا وتركيا على السواء.
ذلك لأنّ الرئيس دونالد ترامب اتّخَذ قرار القيادة الحازمة وقطَع نَهج التردّدِ في وزارة الخارجية الأميركية. طالما إنّ ريكس تيليرسون ماضٍ في تبنّي سياسات مجلس الأمن القومي وتنفيذها، سيحتفظ بمنصبه. أمّا إذا تبيَّن أنّه في عمقِه غيرُ قادر على تبنّي هذه السياسات، الأرجحُ أنّه سيستقيل أو سيُقال. فالرئاسة الأميركية في عهد دونالد ترامب غير اعتياديّة والسياسة الخارجيّة الأميركية تُقَرّ اليوم في البيت الأبيض.
دونالد ترامب لا يَخجل من أن يكون منطق الصّفقات مبدأه، ولا يرى حرَجاً في مطالبة الدول أن تَدفع ماليّاً ثمَنَ التحالفات. إنّه فخور بشعار «أميركا أوّلاً» وبالقوميّة الأميركيّة لكنّه يتعامل بحنكةٍ بالغة مع الحلفاء والأعداء ليبلّغ من يَعنيه الأمر وضوحَ أولويّاته ومساحة الشّراكات والتّحالفات والتفاهمات. بالأمس كان دونالد ترامب محطَّ استهتار وسخريةِ البعض. اليوم إنّه الذي يَجري ضاحكاً إلى البنك الأميركي ويقول لشعبه وللعالم الاقتصادي: قلتُ لكم إنّني مفاجَأة، ولم تُصَدّقوني.