كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن قانون للعفو العام يجري العمل على إعداده ويشمل آلاف الموقوفين والمحكومين القابعين في السجون، وآخرين فارين أو موجودين خارج لبنان، من دون أن تتوضح حيثيات هذا القانون، ومن سيشمل ومن سيستثني، ومتى سيصدر
 

والواقع أن نص مسودة مشروع القانون باتت جاهزة، بحسب مصادر متابعة، لكنها ما تزال قيد النقاشات المحصورة، وتشير التوقعات إلى شموله من اصطلح على تسميتهم "الموقوفين الإسلاميين" وعددهم 1300 شخص، ومن يسمون "المبعدين قسراً"، وهم عائلات عملاء إسرائيل الذين كانوا في جيش لبنان الجنوبي ويبلغ عددهم 4859 شخصاً، ومطلوبين بجرائم إطلاق نار، وملاحقين بموجب وثائق اتصال وخلاصات أحكام، فيما يتردد أيضاً أن موقوفين بتجارة مخدرات قد يشملهم العفو العتيد على أن يستثني بطبيعة الحال الجرائم المحالة على المجلس العدلي، أي جرائم الاعتداء على أمن الدولة، والتفجيرات والاغتيالات السياسية، وكذلك العناصر المتورطة بخطف وذبح جنود الجيش اللبناني في جرود عرسال.

وتتعدد الروايات حول الآلية المتبعة في مشروع القانون، وكذلك المحاذير والخوف من بروز عقبات أو "قطب" تطيح به وبالرهان عليه، لكن ما هو ثابت أن لمعظم القوى السياسية مصلحة في إصدار هذا القانون. ثمة من يتخوف من أن يقتصر القانون على أشخاص ويستثني آخرين، بدوافع سياسية أو طائفية أو مذهبية، والمقصود هنا الموقوفين الإسلاميين طبعاً، خصوصاً بعد الحديث عن إحالة ملفاتهم على المجلس العدلي. هذا الملف أساساً يشوبه كثير من الغموض بهدف إبقائه أسير التهمة المخيفة "الإرهاب"، فيما المطلوب إنهاء الملف وفق الأصول والاجراءات القضائية المعتبرة لإعلان براءة من يستحق البراءة وإدانة أي متورط، إذ إن كثيرين منهم أوقفوا بشبهات غريبة أو مستهجنة، وبعضهم يعاني ظروفاً صحية صعبة، وتوقيف هؤلاء سنين متطاولة ترك آثاراً اجتماعية سلبية جداً، وحشر الموقوفين وعائلاتهم في بازار الابتزاز الداخلي، والتسويق الخارجي تحت عنوان مكافحة الارهاب.

والواقع أن الارهاب وفق التوصيف النظري أو الممارسات العملية، لا ينطبق على كثير من هؤلاء الذين تثير تهمهم الدهشة والغرابة في آن، لكن الشعور بالانكسار السياسي للطائفة السنية الذي ضرب المعادلة الوطنية منذ 2005 وصعود نجم مقولات مكافحة الارهاب والتطرف ورواجها في التسويق لدى الدوائر الغربية، ساهم في تعاظم هذه المأساة، أما الاستثمار السياسي لهذا الملف فقبل ذلك بكثير إذ يعود إلى منتصف التسعينات من القرن الماضي، أيام الوصاية السورية، التي استخدمته لأهداف وغايات مختلفة عن التوظيف الحاصل حالياً.

المفارقة المحزنة فعلاً، ليس التباطؤ في حسم ملفات الموقوفين الاسلاميين فحسب، بل رمي عشرات الشباب بشبهة الظن والشك، في السجون من دون إصدار أحكام أو تخلية سبيل، بما يوصلهم إلى حالات من الياس والضياع، وينمي عندهم الشعور بالظلم والغبن، ويزين لهم مقولات الخروج على الانتظام السياسي والاجتماعي والديني والقيمي، ويجعل منهم فريسة سهلة للانزلاق إلى دروب الارهاب الحقيقي.

لا جدال في استحقاق أي متورط بجرائم ارهاب أو غيرها للعقاب المنطقي والمستحَق، لكن في لبنان للأمور مائة وجه ووجه، وهنا في هذا الملف حيث تغيب المحاكمة أو التحقيق القضائي الشفاف، تفرض المقارنات الطائفية نفسها بمفارقات التعامل بين المتهمين بالعمالة للعدو الإسرائيلي، والذين ينتمون بمعظمهم إلى أبناء مناطق غير إسلامية، والذين تمّ تسريع محاكماتهم وتخفيف عقوباتهم أو المطالبة بالعفو لهم، وبين المعتقلين بالشبهة وقد قضوا سنوات من دون محاكمة، ثم يتم إنزال أقصى العقوبات بالعديد منهم!

مجدداً ومرة أخرى، ما نحن بصدده ليس إجراءات قانونية واستنسابية محقق أو لعبة تذاكي من معدّي مشروع القانون، إنما قضية حساسة تتصل بسلامة مجتمع ووطن.. والفرق بين المعالجات والتوظيفات كالفرق بين نص القانون وروح العدالة.