سافرتُ مستعجلاً على غير عادتي، من دون ترتيبِ نفسي. فقد خرجتُ بلحيتي الكثّة، بشعري الأشعث، وغطائي الصّوفي الطويل المناسب لمناخ الشمال، حيث أمضيتُ وقتاً طويلاً هناك وتزوجت بامرأةٍ سويدية ضقتُ ذرعاً بالمكان بعد انفصالي عنها، فقررتُ الرحيل إلى الجنوب.

إحدى وعشرون ساعة تفصلني عن جنوب البلاد، في رحلةٍ كان لي فيها حظ كبير، إذ تمكنتُ للمرة الأولى من حجز سريرٍ داخل مقصورة القطار. في الغرفة الصغيرة التي تتسع لستة أشخاص كان هناك شابان عربيان، أحدهما مغربيٌّ أنيق المظهر، أشقر الشعر، قادمٌ من جمهورية فنلندا، والآخر يمنيّ الجنسية من أصلٍ صومالي بدا كأنَّه خارجٌ من السجن للتو. مع هذا، رأيتُ فيه نظرة التشرد نفسها التي يمكن رؤيتُها بوضوحٍ في كلينا.

صعدتُ للنوم سريعاً، فأمامي ثلاث عشرة ساعةً لبلوغ العاصمة، ولا يزال الجوّ بارداً كما جوّ الحديثِ بيننا. من دون تفكيرٍ تناولتُ غطاءً من سريرٍ فارغٍ راجياً الله ألَّا يحتاجه أحد. فانتفضَ اليمنيُّ من مكانه وقال معترضاً على فعلتي:

* هل تريد التسبب في مقتلنا؟

- مقتلُكم! وكيف ذلك؟

* ماذا لو كان السرير محجوزاً لمسافرٍ عنصري؟

- أوَيقتلني بسبب الغطاء؟! وكيف يعرف إن لم يتفقد أسرَّتنا؟ أستطيع مقاضاتهِ في هذا الشأن. ثمَّ إنَّه سيقصد في الغالب، أحد الموظفين أولاً، أو سيتناول غطاءً من الأسرّة المتبقية. لا تخف يا صديقي.

هنا تدخّل الشاب المغربي القادمُ من فنلندا وقال لليمني الخائف:

- لكنَّكَ لا تنام في سريركَ، وبحسبَ كلامكَ، أظنٌّكَ لا تعلم أني لاحظتُ رقم الحجز حين سألتني إن كانت هذه هي الغرفة الصحيحة.

دفعني حوارهما إلى السؤال عن سبب خوفهما وحذرهما الشديد، فقال اليمني مستهجناً لامبالاتي:

- ألم تسمع بحادث ستوكهولم الإرهابي الذي وقع منذ يومين!

حتى التَّبرير هذا، لم يحملني على الخوف.

استلقيتُ في سريري بلا اكتراث، وبعد مضي نحو الساعة تقريباً باغتني قلقٌ مفاجئ تسرَّب إليَّ من حديث الشابَّين الخائفَين من خوف الآخرين منهما؛ قلقُ لم أستطع السيطرةَ عليه.

لأمنعَ نفسي من الدخول في متاهة التفكير فيه، نزعتُ الغطاء الإضافي عني وأعدته إلى مكانه، على الشكلِ الذي كان عليه، من دون أن تفارق خيالي صورةُ اليمني وهو يقفز من مكانه معترضاً على استعارتي الغطاء. بدا كما لو أنَّ أحدهم أعلنَ حال طوارئ أو كأنَّ أحدهم صرخ فجأةً: هناك قنبلة!

كان أجمل ما حدث خلال الثلاث عشرة ساعة تلك، أنَّي تمكنتُّ من التدخين في القطار، وهو تدخينٌ حذر. فقد كنتُ أفكرُ بعد كلِّ سيجارة، هل يمرُّ ناقمٌ على العرب فينتقم مني بسبب الرائحة!؟

تسرّب الشكّ إلى قلبي، أو ربما الرهبة بشكلٍ أدقّ، حتَّى أنَّي أعدتُ التفكير في الساعتين المقرر إمضاؤهما في شوارع العاصمة وفضلتُّ الانتظارَ داخل المحطة.

الآن على مشارف ستوكهولم، توقعتُ النَّزول لأُفاجأ بعناصر الشّرطة في كلِّ ركنٍ وكلِّ زاوية، وبين الناس. الحقيقة أنَّي فوجئت بوجودهم أيضاً عند بوابةِ كل مقطورة، يتفحصون الوجوه، ويوقفون المشتبه فيهم بحسب المعطيات.

كان عليَّ انتظار الجميع قبل أن أغادرَ المقطورة كي لا أعوق حركة المسافرين بحقائبي الكبيرة البالية كمظهري. نزلتُ وأنا أعضّ على بطاقتي الشخصية بشفتيَّ الجافتين، تفادياً للقبض عليَّ فجأةً قبل التأكد من هويتي.

"التحاشي"، هو تماماً ما يصف سلوك النَّاس في التعاملِ معي. ولعلّ عناصر الأمن كانوا الأكثر اطمئناناً من ناحيتي. فأيُّ إرهابيٍّ هذا الذي سيأتي مفخخاً ويجرُّ خلفه مَتاعاً ثقيلاً بهذا الشكل!

سرعان ما منحني هذا الكثير من الراحة. الطريف أنَّه منحني شعوراً زائفاً بالأهمية، فقد فسحَ لي الناس مجالاً للمرور، بدا كأنّي أسير على سِّجادٍ أحمر. كانَ ذلك رائعاً كالشعرةِ التي وقعت قبل أن تقصم ظهر البعير!

لكن سرعان ما تلاشى ذلك الإحساس بالطمأنينة والأهمية، فقد أدركتُ أنَّي مُراقب بشكلٍ أو بآخر. قد لا يكون هناك سببٌ منطقي لشعوري بالخوف من خوفهم مني، الذي قد لا يكون قائماً ببساطة، لكني وجدتُ لهم عذراً لتلك المخاوف في حالِ وجودها، فهم شعبٌ لم يعش ويلاتِ الحروب منذ مئتي عام. لم يكن هناك من وسيلةٍ تنهي هذا الوسواس الذي زرعه الشابان العربيان في رأسي إلَّا إمعان النظر في الأرض، فالنظر في عيون الخائفين مُربك، وهذا ما كنتُ أراه رغماً عني في عيونِ النَّاس حولي بعد أن عشتُ رُهاباً افترضه ذلك اليمني ونقله إليَّ بالعدوى؛ رُهاب هويةٍ لديَّ ورُهاب الغريب لديهم، افترضه وزرعه في رأسي فأربكني بشدة.

في تمام الثامنة والنصف، وقبلَ خمسِ دقائقَ على موعد انطلاقِ القطار، اقتربت امرأةٌ عاصرت ثلاثينَ ربيعاً تستعد لصعود القطار معي. كانت ترتدي جواربَ شَبَك سوداء طويلة تثير العيون الغارقة في بحيرات الجفاف العاطفي، وتنورةً من أعلى الخصر إلى أسفل الردفين تشبه الفيزون، في سرتها حلق، وإلى أعلى في اتجاه نهدها الأيمن يتربَّعُ وشمُ شفاهٍ يتدلى منها لسان. ما هذا! لم أستطع منع نفسي من التساؤل عن شكل هذه المرأة وهي تستعد لممارسة الجنس!

لا أذكر أنَّي استغفرتُ الله على النظر إليها كلَّ هذا الوقت، لكنَّي فعلتُ عندما جلست بجانبي. لم أستطع استراق النظر إلى تفاصيلها المذهلة خوفاً من العودة إلى دوامة الرُّهاب.

 لقد حُرِمت متعةَ النظر إلى فخذيها. ولكن... أليس هذا هو الإرهاب!؟