التطور الجديد في العلاقات بين تركيا والسودان، ودشنته زيارة أردوغان حاليا، له أبعاد تتجاوز الحدود الثنائية المعروفة، فهناك قاسم مشترك مهم، يتعلق بالعلاقات الوثيقة التي تربط كل منهما بقطر، التي تصر على الاحتفاظ بعلاقة قوية مع إيران
 

الاهتمام الذي صاحب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان، له مبررات ظاهرة في أجندة أنقرة والخرطوم، تتعلق بأنها أول زيارة لرئيس تركي منذ استقلال السودان، وما تمخض عنها من اتفاقيات تعاون على أصعدة مختلفة.

لكن هناك من توقفوا عند الزيارة لأسباب أخرى، تخص تطورات وسياقات إقليمية متسارعة، فالجزء الخفيّ الذي يربط بين البلدين يبدو أكثر أهمية، ومن المتوقع أن تكون له تأثيرات عدة على خارطة التحالفات في المنطقة.

العلاقات بين تركيا والسودان، شهدت تناميا خلال السنوات الماضية، على قاعدة الروافد الإسلامية التي ينطلق منها النظام الحاكم في كل بلد، ولم يتخذ ذلك بعدا رسميا كبيرا، بسبب وجـود ممانعات إقليمية ودولية عديدة، وتقاطعات مشتركة مع دول لديها تحفظات على أي تحالفات من هذا النوع، حالت دون الإفصاح عن المكونات الحقيقية لتقارب ظل غير معلن لفترة من الوقت.

التفاهمات الضمنية منحت كل طرف مزايا كبيرة لتحافظ كل حكومة على علاقات هادئة مع دول عربية وغير عربية، لفظت الفكرة الإسلامية، قولا وعملا، بينما ظلت في وجدان وعقل النظام الحاكم في كل من تركيا والسودان، ربما تتوارى نسبيا، لكن الإعلان عنها كان يأتي من حين لآخر بما يؤكد الجذور والهوية الإسلامية.

البلَدَان لم ينكر أي منهما ترحيبه بإقامة الكثير من القيادات الإسلامية على أراضيه، والتورط في دعم جماعات مارست العنف والإرهاب في دول مجاورة، تركيا في سوريا، والسودان في كل من مصر وليبيا.

المحاولات التي جرت لإنكار ما يتردد في العلن من تهم، بدت لدى كثير من أجهزة الاستخبارات لا قيمة لها، لأن هناك أدلة حولت التهم إلى جرائم لا تقبل الشك، وهي أحد أسرار استمرار الخلافات مثلا بين القاهرة والخرطوم، والتي تفجرت في قضايا أخرى بعيدة.

للمداراة على ما تمتلكه القاهرة من معلومات بشأن دعم إسلاميين من قبل الحكومة السودانية، كانت الخرطوم تلجأ غالبا إلى شماعة مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه بين البلدين، وتتعمد تفجيره في وجه الحكومة المصرية، كلما احتاجت إلى مبرر للتشويش على ما تردده القاهرة حول الدول الداعمة للإرهاب في المنطقة.

السودان نفسه، فاجأنا بوقوفه بلا مواربة بجانب إثيوبيا في أزمة سد النهضة الذي يؤثر على حصة مصر من مياه النيل، وكلما ضاق الخناق لكشف تواطؤ الخرطوم مع أديس أبابا، كانت الأولى تلجأ إلى توجيه اتهامات للقاهرة، في محاولة لإبعاد الأزمة عن سياقها الفني وحشرها في سياق سياسي، يعكس حجم المرارات بين البلدين.

تركيا، كانت تقفز أيضا على مسألة دعم الإسلاميين، بالتشديد على أنها تخوض حربا ضد الإرهاب في سوريا، ورغم التناقضات التي وقعت فيها أنقرة لكنها، مع الخرطوم، لم تتورع عن إيواء قيادات في التيار الإسلامي بأطيافه التي توصف في بعض الأدبيات بـ“المعتدلة” حتى لو كانت هي المعين التي خرجت منه معظم تيارات العنف في المنطقة.

التطور الجديد في العلاقات بين تركيا والسودان، ودشنته زيارة أردوغان حاليا، له أبعاد تتجاوز الحدود الثنائية المعروفة، فهناك قاسم مشترك مهم، يتعلق بالعلاقات الوثيقة التي تربط كل منهما بقطر، التي تصر على الاحتفاظ بعلاقة قوية مع إيران، وكل من الدوحة وطهران لا تنكر تعاطفها مع كثير من الجماعات الإسلامية، مع أن غالبيتها مدان بارتكاب إرهاب لم يعد خافيا.

ربما تكون الأسباب التي تنطلق منها قطر مختلفة عن نظيرتها في حسابات إيران، لكن في الحالتين ثمة تفاهمات تصب في مربع واحد، مربع يسمح بالإبقاء على الإسلاميين في المشهد.

العلاقات بين تركيا والسودان، شهدت تناميا خلال السنوات الماضية، على قاعدة الروافد الإسلامية التي ينطلق منها النظام الحاكم في كل بلد، ولم يتخذ ذلك بعدا رسميا كبيرا، بسبب وجود ممانعات إقليمية ودولية عديدة
إذا أضيفت العلاقات الجيدة التي تربط كل من قطر وإيران بتركيا، وتلك التي تربط الدوحة وأنقرة بالخرطوم، من السهولة أن تستعيد الأخيرة علاقاتها بطهران، والتي تقطعت جوانب من أوصالها عندما كانت علاقة السودان جيدة بالمملكة العربية السعودية، وتم سد جزء كبير من المنافذ الثقافية الشيعية في الخرطوم.

الآن تخيم سحب قاتمة على علاقة الخرطوم بكل من القاهرة والرياض، بفعل عمليات التحريض القطري، وهو ما يفتح المجال أمام عودة قريبة لاستعادة السودان علاقاته مع إيران.

المعطيات السابقة وتشابكاتها، المعلنة والخفية، تقود إلى توقع أن تكون هناك أفكار تخص امتداد مثلث تركيا- إيران- قطر، ليشمل السودان معه، والمبررات التي ينطلق منها كثيرة.

أولا: تشابه الأهداف التي تتحكم في تحركات ومفاصل الدول الأربع، وأبرزها الإصرار على دعم التيار الإسلامي بتنويعاته المختلفة، والتي أصبحت جزءا من هوية (تركيا وقطر وإيران والسودان)، وتطوير العلاقات بينها لمواجهة المد الذي يحظى به تحالف مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وبات عنصرا مهما لفضح كثير من ممارسات الدول الداعمة للإرهاب وزيف الخطاب الذي تعتمد عليه.

ثانيا: وجود رغبة عند الدول الأربع للتمدد نحو القارة الأفريقية، لدى تركيا مصالح كبيرة في القرن الأفريقي، وتحاول تطوير نفوذها في الشرق والجنوب، ولدى قطر محاولات ظاهرة للتغلغل في العمق، وقطعت إيران شوطا كبيرا في توسيع نفوذها بالقارة السمراء، ولدى السودان استعداد ليكون رأس حربة لهذه الدول، طالما أنه يتلقى مساعدات تخفف من وطأة أزماته الاقتصادية، ودعما يسانده ليجعله مناطحا لمصر.

من هنا، يمكن فهم أحد مفاتيح التحرك السعودي – الإماراتي في الساحل الأفريقي، وتقديم وسائل دعم متعدد لدحر الإرهاب في المنطقة، والذي يتغذى على ما يتوافر له من دعم قطري- إيراني- سوداني- تركي.

كما أن النشاط الذي تبديه مصر في القارة الأفريقية، ليس فقط لحماية مصالحها المائية، لكن أيضا لسد جانب من الفراغ الذي سمح لدول من خارج القارة بالتغلغل في دولها، ومحاولة رسم خارطة جديدة تكون ركيزة لهؤلاء.

ثالثا: تشكل تحالف بهذه الطريقة، يمنح بعض القوى الكبرى فرصة لدعم تصوراته بشأن المزيد من استنزاف القوى الرئيسية في المنطقة، حيث يعتقد أصحاب هذه الرؤية أن الصدام قد يكون حتميا، بين القوى الداعمة للتيار الإسلامي، بأشكال مختلفة، والقوى المناهضة له.

رابعا: لدى الدول الأربع، تركيا والسودان وقطر وإيران، مشكلات متعاظمة، تحاول تجاوزها أو التخفيف من حدتها، عبر تشكيل نسق تعاوني إقليمي، يوفر لكل دولة منها جانبا مما تريده من تحركات وطموحات لتقليص الاستهداف الفردي.

المعضلة ليست في تطوير هذا التعاون، لكن في تجاهل كوابحه الرئيسية، فكل من الدول الأربع تعج بمشكلات يصعب غض الطرف عنها بالقفز عليها، فقطر تعاني ويلات الأزمة التي حشرت نفسها فيها جراء عدم الاستجابة لمطالب الدول العربية الأربع، والكف عن دعم الإرهاب، وإيران دخلت أزمة عميقة مع الولايات المتحدة والعديد من الدول العربية، وأصبحت محل استهداف واضح بسبب تدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية لبعض الدول.

كما أن تركيا، التي تعّول على روسيا في تخفيف حدة ورطاتها المتعددة في المنطقة، يمكن أن تواجه مصيرا غامضا في الداخل، وسط تصاعد حدة مشكلة الأكراد، والغضب المعلن من توجهات الرئيس أردوغان في أسلمة المجتمع التركي بالقوة.

أما السودان، فأزماته المعقدة والمركبة بحاجة إلى أكثر من مقال، وفي حال تصوره أن تركيا قد تكون حليفا مؤتمنا، سوف يكون قد وقع في خطأ جوهري، لأن معظم قوى المعارضة استقبلت زيارة أردوغان بتذكيره بالإرث السيء للدولة العثمانية، وما سببته من أذى في بلادها.

ويكفي عدم نسيان ذلك لنسف الأحلام التي بناها الرئيس عمر حسن البشير على حليفه الجديد أردوغان، لأن كل منهما بحاجة إلى حماية لا يستطيع أحدهما توفيرها للآخر دون دفع تكاليف باهظة.

 

محمد أبو الفضل