قسوةُ الحياة على صباح الفنانة والإنسانة من دون تعب إلّا «ساعات»، لم تستطِع بكلّ تجسّداتِها خلعَ الفرح عن وجهِها وكمشَ ضحكة براءتها. الحياةُ عندما تقسو على الإنسان تتغلغل فيه وتترك من نفسها داخلَه، إلّا أنها لم تتمكّن من تحويل صباح الفَرَح إلى امرأةٍ قاسية. ربما في أنحاء العالم كلّه، وليس في عالمنا العربي فقط، لم ينوجد وجهاً فنّياً حمل الحياة كوجه صباح. «ممنوع عليّي ممنوع تكرج من عينيّي دموع»
 

ثلاث سنوات مرّت على رحيل رمزِ الحياة. في 10 تشرين الثاني 1927 وُلدت جانيت فغالي، وفي 26 من تشرين الثاني 2014 رحلت. وبقيت صباح، بضحكتها، بصورتها القويّة الحضور، بصوتها وبالأوف.

بـ83 فيلماً و27 مسرحية وما يزيد عن 3000 أغنية. بأعمالها الإنسانيّة، بطيبتها وصَفْحها وعَيْشها. بقيت بأناقتِها بفساتينِها وأكسسواراتِها، بلونِ شعرِها. بقيت في تاريخ لبنان ومصر وكلّ العالم العربي إلى جانب «الكبار»، النعمة التي كانت تشكر ربها عليها.

حكاية صباح في كتاب

ما بين لبنان ومصر، حياةٌ صاخبةٌ عاشتها صباح الإنسانة والفنانة، منذ ظهورها في فيلم «القلب له واحد» في مصر عام 1945. كانت تتمتّع «الصبوحة» بحضور أُنثوي قويّ وجامح ترغبه الشاشة وتطلبه خشبة المسرح، وكانت تزيد من زخم هذا الحضور خامةُ صوتها الجبَلي خصوصاً خلال «الليالي اللبنانية» في بعلبك وفي المسرحيات التي قدّمتها لعقود مع أبرز الأسماء الفنّية اللبنانية.

أقاويلُ وإشاعات وحقائق كثيرة تمّ تناولُها عن صباح خلال حياتها وبعد مماتها، على الصعيدَين الشخصي والفنّي. إنها فنانةٌ استثنائية. حياتُها الشخصية، من زيجاتها المتعددة إلى علاقتها الشائكة بأولادها وعائلتها جعلتها عُرضةً للألسنة رغم أنها كانت «دافئة اللسان»، بسيطة برقيّ ولائقة بخفّة.

وفي عام 2011 تمّ إنتاجُ مسلسل يحكي قصة حياتها بعنوان «الشحرورة»، شمل معظم حياة صباح الشخصية والفنّية، إلّا أنّ عائلتها تحفّظت على الكثير ممّا طرحه. وعلى رغم استناد سيناريو المسلسل على مقابلة مع صباح، اعتبرت عائلتُها أنّ مسلسل «الشحرورة» بُني على الخيال أكثر ممّا بُني على الحقيقة.

وعن توثيق وكشف حقيقة حياة الشحرورة أعلنت ابنةُ شقيقة الفنانة صباح كلودا عقل، عبر «الجمهورية» عن انتهائها من تجهيز كتاب عن حياة الشحرورة، سيصدر حالما يتوافر التمويلُ اللازم له.

وكشفت عقل التي رافقت خالتها من السبعينات، وبقيت إلى جانبها حين مرضت واهتمّت بها لحين رحيلها، أنّ هذا الكتاب يتضمّن معلوماتٍ وحقائق عن صباح لم تتمّ الإضاءةُ عليها سابقاً.

وقد استندت في إعدادِها هذا الكتاب إلى مذكرات والدها الراحل الصحافي فاضل سعيد عقل، التي تضمّ الكثيرَ من التفاصيل عن حياة صباح. كما إلى مجلّاتٍ من أيام الثلاثينات والأربعينات، تتضمّن معلوماتٍ ومقالاتٍ عن صباح حين كانت تغتّي مع فرقة
«شحرور الوادي» قبل ذهابها إلى مصر.

الكتاب يتناول حكاية صباح بأكملها بطريقة متسلسلة زمنيّاً، من طفولتها وحياتها مع أهلها لغاية آخر أيام حياتها. وسيضمّ صوراً لصباح من ألف صورة تملكها عقل ولم تُنشَر سابقاً.

وأشارت عقل إلى أنها تركّز في الكتاب على شخصيّة صباح، وذلك من خلال معرفتها العميقة بها وعيشِها معها فترةً طويلة. وقالت: شخصيّة صباح الإنسانة تجعلنا نفهم شخصيّة صباح الفنّانة.

ما كان يُحزنها

إلتزامُ صباح بعملها وعشقها لفنّها، كان يشكّل ضغطاً عليها ويجعلها تعيش حالة توتّر قبل صعودها على خشبة المسرح في كلّ مرة تقدّم فيها مسرحية، مثل «ست الكل» أو «حلوة كتير» أو غيرها، فكانت «تتشنّج» وتسأل بتكرار «قولكم راح كون منيحة»؟ «قولكم راح أعمل منيح؟»، ما يؤدّي إلى زيادة توتّرها بشكلٍ يضطرها لـ»تعليق مصل» كي ترخي أعصابها قبل صعودها على المسرح، كشفت عقل عبر «الجمهورية». ولكن ما أن تطأ رِجلُ صباح خشبة المسرح، وتلمَس حماسة الجمهور بعينيها وتسمع التصفيقَ كانت تنسى كلّ شيء تلقائياً.

رغم قساوة الحياة عليها، لم تقسُ صباح. وعن ذلك قالت عقل إنّ صباح إنسانة حساسة جداً، ولم تكن تحب أن تؤذي أحداً، كانت تقول دائماً «طنّشي وإذا بدك تربحي شخص ما تردّي علي».

كل شيء بالنسبة لصباح كان «مجد باطل». صباح التي اكتشفت مغزى الحياة، والتي كانت تردّد «ما في شي بدوم، عيش اليوم وخلي بكرا يدبّر حالو، ما منعرف إذا بكرا رح يجي».

ساعدت الكثيرين ومدّت يد الاهتمام والحب والمال لهم، إلّا أنّهم في غالبيتهم قابلوا طيبتها بالخيانة والاستغلال، كانت تقول أنا لم أقم بإيذاء أحد طيلة عمري، فلماذا يستمرون بإيذائي؟ «شو عملت أنا حتى يئذوني»؟

ما كان يُحزنها كثيراً هو فقدان الأحباب، أما باقي الأمور فكانت تتخطّاها. وكانت إنسانيةً جداً وتحبّ مساعدة الآخرين. كانت تحزنها أمورٌ إنسانية ومعنويّة فلم تكن تتحمّل رؤية فقير لا يستطيع تأمينَ لقمة عيشه، وكان يؤلمُها ذلك.

وأخبرت كلودا عقل التي كانت ترافق «الصبوحة» أن في كلّ مكان تذهب إليه كان يتجمهر حولها الجميع. وكانت تعطي مثلاً 100 دولار أميركي لكلّ valet parking مهما بلغ عددهم، فكنتُ أقول لها «معقول 100 دولار»!. جواب الشحرورة الدائم: «تخايلي 100 دولار كم ستفرح هذا الشخص، ستمكّنه من شراء حاجيات تنقصه وحملها إلى منزله وعائلته».

اشتُهرت صباح بأطول أوف في الستينات، وفي العام 1969 كانت أوّل فنانة لبنانية تغنّي في مسرح الأولمبيا في باريس. غنّت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وأينما كانت تحلّ كان يقول لها المغتربون «لا يمكننا أن نذهب إلى لبنان، فتأتين أنت بلبنان إلينا». وكانت تنفد بطاقات حفلاتها في أيّ بلد بعد ساعتين من طرحها.

عن فساتين صباح وأغراضها، أشارت عقل، ضاحكةً إلى انها كانت «تضيّف الفساتين». امّا أغراضها الشخصية فوزّعتها على ابنتها وأهلها.
وعن إمكانية إقامة متحف يجمع أغراض الشحرورة وثيابها وأرشيفها. أعلنت عقل أنّ هناك شيئاً يتحضّر في هذا الإطار، وأنّ كلّ شيء مطروح.