لا زالت إعلانات كثيرة في بلدنا تكرّس الصوَر النمطية، فتُصوّر المرأةَ ربّةَ منزل ومربّية، بينما تُرَفِّع الرَجل عن كلّ هذه الأعمال، وكأنّها من اختصاص النساء فقط. أو في المقابل تعرضُ إعلاناتٌ أخرى جسدَها لإثارة المُشاهد، لعلّه يتعرّف من خلال إمتاع نظره والتحديق بمفاتنها المعروضة بشكل مبتذل، على المنتج الجديد ويَرغب في شرائه.ها هي دعاية إحدى مساحيق الجَلي تُطلّ من جديد على شاشة التلفزيون وكلّ 10 دقائق. تُظهر ربَّة المنزل غارقةً وسط كومةِ الأطباق والكؤوس التي تنتظر سواعدها للتنظف. هي تعبةٌ وقلِقة من شدّة الأعمال المنزلية المتراكمة عليها. وفجأةً يُطلّ المسحوق السحري الذي تُعرَض الدعاية على شرفه، وكأنّه سينقِذها من محنتها.

وفي إعلانٍ آخر لمكنسة كهربائية، تكنس المرأة بينما يتفرّج زوجُها عليها. هو المموّل اشترى هذه المكنسة بكلّ فخر لتُنظّف زوجتُه البيت. أمّا في الإعلان التالي فيستمتع المشاهد المتخلّف بصورِ امرأةٍ شِبه عارية في الحمّام تُمثِّل إعلاناً لإحدى ماركات غسول الجسد.

هذه نماذج من إعلانات تَربَّينا عليها. تربَّت أجيال على فكرة أنّ الفتاة حين تكبر يجب أن تتزوّج وتُنجب وتتحمّل مسؤولية الأعمال المنزلية، كما عليها الاعتناء بأنوثتها لإعجاب الرَجل، وإثارةِ غيرةِ النساء الأخريات. هذه الصور النمطية التي تُسوّق عدمَ المساواة بين الرَجل والمرأة، إلى حدّ إذلال المرأة وتحجيمها واحتقار فِكرها وإنسانيتها مترسّخةٌ في مجتمعنا ووسائلِ إعلامِنا، وهي تُرضي الكثيرَ من الرجال الذين يُشرّجون رجوليتهم بتنميط النساء.

والأخطر أنّ هذه الصوَر لا تستفزّ عدداً كبيراً من النساء وقد أصبحن جزءاً لا يتجزّأ من هذه المنظومة المؤذية لهنّ، دون أن يُدركن الصحَّ من الخطأ. هنّ يُطبّقنَ روتينياً ما تعلّمن عن أدوارهنّ النمطية منذ نعومةِ أظافرهنّ دون تفكير معمّق.

وفي فرنسا أيضاً

كشفَت استطلاعات رأي أنّ 41 في المئة من الفرنسيين مصدومون من الطريقة التي تَظهر فيها النساء في الإعلانات. وثلاثة أرباع الفرنسيين أعرَبوا عن انزعاجهم من الصورِ النمطية المستشرية في الإعلانات ووصَفوها بغير المقبولة.

هنا

تنتشر الإعلانات المسوِّقة لأجساد النساء والمروِّجة لمفهوم تسليعهنّ دون حسيب أو رقيب في لبنان، بينما تعمّ المناطقَ اللبنانية قصصُ تعنيفِ النساء وأخبارُ قتلِ هذه الزوجة هنا وضربِ تلك الأختِ هناك، وتزويج هذه القاصر لرَجلٍ يَكبرها بعشرين عاماً اشتراها وأهلَها بثروته في القرية المجاورة، وتزويج تلك المُغتصَبة للوحش الذي اعتدى عليها بحماية القانون... ويَقبع لبنان في ذيل الدول بالنسبة لدخول النساء ميدانَ العمل السياسي، ويُحرَم بلدُنا من طاقات آلافِ النساء الرائدات اللواتي يتعلّمن ليَنتهينَ في المطبخ، خصوصاً أنّ إحصاءات حديثة تشير إلى أنّ 23 في المئة هي نسبة النساء العاملات في لبنان، بينما تشكّل الإناث 54 في المئة من عدد المتخرّجين من الجامعات. كلّ ذلك، ولا يزال عددٌ لا يُستهان به من الإعلانات اللبنانية لا يرى في المرأة إلّا الجانبَ السكسي... أو المسؤولة عن الأعمال المنزلية!!

نماذج مهينة

تَفضح جمعية Female التي تعمل على محاربة تسليع وتنميطِ النساء في الإعلام والإعلان الكثيرَ من الإعلانات المرسّخة لعدم المساواة بين المرأة والرجل والمسيئة لكرامة النساء الإنسانية. ففي رصدٍ لصورةِ النساء في الإعلام والإعلان في لبنان خلال الفترة الزمنية الممتدة من آب 2015 إلى آب 2016، يَظهر تسليع وتنميط النساء بصورة جَليّة.

على هذا الطريق «إعلان مَعرَض للرجال يَستخدم امرأةً للجذب دون أيّ رابط بين موضوع الإعلان والصورة المستخدَمة»، وهناك إعلان يدعو النساءَ إلى الخضوع لتجميلٍ في إحدى العيادات بهدف استقطاب الرجال. ويحاول الإعلان الذي رصَدته جمعية Female «تثبيتَ فكرةٍ مفادُها أنّ السبب الوحيد الذي يجعل الرجال منجذبين إلى النساء هو جمالهنّ وليس أيّ شيء آخر».

وذلك إعلان لإحدى شركات التنظيف المنزلي «يكرّس النظرةَ التقليدية تجاه النساء على أنّهن المسؤولات الوحيدات عن التنظيف». ناهيك عن إعلانات المستحضرات التي تروّج «لمعايير محدّدة واصطناعية للأنوثة والجمال»، بينما إعلان آخر «يصوّر الفتاة على أنّها بلهاء لا تعرف كيف تتصرّف، أمّا حبيبُها فهو الرجل القوي والجدّي»....

إجراءات صارمة

يشكّل الإعلان مستقبلَ خروج النساء من الصور النمطية إنْ حسنَ استعمالُه، فالحلُّ لوضعِ ربّةِ المنزل اليائسة ليس مسحوق جلي سحري إنّما رفعُ الدورِ النمطي عنها.

ولم يتحرّك المسؤولون في لبنان بعد لوقفِ تلك الإعلانات المدمّرة لصورة النساء، والتي تكبّل المجتمعَ بأفكارٍ بالية، إذ تتردّد على مسامع اللبنانيين وتتراءى أمام أعينِهم مئات المرّات لتُسوّقَ منتجاً، بينما هي في الحقيقة تُروّج أسلوبَ حياةٍ بالياً وصورةً مهينة للمرأة.

اللافت أنّ الدوَل المتقدّمة، وخصوصاً الأوروبّية، أدركت أهمّية الإعلانات لدعمِ النساء، فباتت الإعلانات تُشجّع الرَجل على القيام ببعض الأعمال المنزلية، ما يريح النساءَ ويساعدهنّ على الانخراط أكثرَ فأكثر في عالم الأعمال، وذلك بهدف إغناء المجتمع وزيادة تقدّمِه. فيروّج الإعلان في آنٍ للمنتج ولنمط حياة عصريّ يكسِر التقليد والصوَر النمطية.

وفي بريطانيا بدأوا جدّياً باتّخاذ خطوات صارمة. فمنَعت لندن العام الماضي عرضَ إعلانات تُصوّر نساءً ذات أجساد يَبلغ جمالها حدَّ الكمال، لأنّها تُشكّل «ضغطاً، خصوصاً على جيلِ الشباب، ليحوّلوا أجسادَهم إلى أجساد غيرِ واقعية وغيرِ صحّية»، بحسب عمدةِ لندن صادق خان.

وها هي لندن تقوم بخطوةٍ لافتة أخرى هذا الصيف. وضَعت الهيئة المشرفة على الدعاية والإعلان في بريطانيا قواعد صارمة على الدعايات التي تُظهر رجالاً لا يمكنهم القيام بأبسط المهامّ المنزلية، ونساءً تُرِكنَ وحدهنّ يَقمنَ بمهمّةِ تنظيف المنزل. وتشير الهيئة البريطانية إلى أنّ آثار هذه الإعلانات «سيئة على الأفراد، والاقتصاد والمجتمع».

وتؤكّد أنّه «مِن غير المقبول أن تُصوَّر الأسرة وهي تخلق فوضى في المنزل، ثم تُترَك المرأة وحدها لتتحمّلَ مسؤولية التنظيف، أو أن يَظهر رَجل وهو يحاول أداءَ مهمّةٍ بسيطة من الأعمال المنزلية، ولكنّه لا يفلح». إلى ذلك، تلفتُ الهيئة البريطانية إلى أنّ الدعايات التي تحدّد أنشطةً مناسبة للصبيان، وأخرى مناسبة للبنات، تُسبّب مشكلةً أيضاً.