يتم اليوم إنتاج خطاب جديد أن السلاح الذي قاتل داعش هو سلاح مقدس، والذي يقاتل الإرهاب كما سلاح حزب الله الذي قاتل الاحتلال الإسرائيلي هو سلاح مقدس أيضا
 

ساهم المشروع الإيراني في المنطقة العربية في ضرب الدولة الوطنية من دون أن يقدم بديلا موضوعيا، فمشروع ولاية الفقيه لم يحمل في طياته مشروع تأسيس نموذج لدولة وتعميمها. الطبيعة الأيديولوجية للنظام الإيراني لا تتحملها إلا إيران، ذلك أن المقترح الأيديولوجي الذي يقدمه نظام ولاية الفقيه متناغم مع إيران حصرا، مع البنية السلطانية في هذا البلد، فحتى من الناحية الفقهية الشيعية لم يسبق في تاريخ مدرسة النجف الأشرف العربية أن ولد مشروع الفقيه السلطان.

ذلك أن مشروع ولاية الفقيه يعاني من مآزق عقلية قاتلة “الراد على الولي الفقيه راد على الله”، فالفكر الذي يعجز عن أن يعقلن نفسه يلجأ إلى المقدس، كما لجأت الأيديولوجيا الإيرانية إلى الإمامة لتغطية وتبرير عملية تقويض الدولة الوطنية. ربما هي نجحت في تحويل عقيدة الإمامية الإثني عشرية في وعي العديد من الشيعة إلى مشروع الذود عن سلطة ونظام سياسي مركزه إيران.

لذا فالأيديولوجيا الإيرانية غير معنية بأن تؤسس كيانات سياسية، هي تقود دولة تريد أن يكون لها امتداد إقليمي، حيث أثبتت الوقائع أنّ إيران تعمل على إيجاد بؤر أمنية سياسية ثقافية، يكون لها حضور فاعل فيها وتتميز هذه البؤر بالتبعية التي تعمل على عزلها عن محيطها، من هنا يمكن أن نلاحظ كيف أنّ الهوية الشيعية قد تضخمت في المنطقة العربية منذ الثورة الإيرانية حتى اليوم، بشكل لم يشهده تاريخ المنطقة على هذا النحو من الانفصال الشيعي عن محيطه وفي تبعيته لخارج نظام المصالح الوطني والقومي.

نموذج الحشد الشعبي في العراق يعبّر عن هذه الوجهة التي تبلورت بداية في لبنان عبر حزب الله، فالعراق بتشكيلته المقبلة ينحو نحو المزيد من التشكّل الطائفي بالشروط الإيرانية عبر تشكيل قوة طائفية رديفة هي الحشد الشعبي المرشح مع نهاية سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الجغرافيا العراقية لأن يزداد حضوره ونفوذه على حساب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية المنافس لها في آن. وليس خافيا أنّ الحشد في بنيته وتشكيلاته يخضع للسيطرة الإيرانية، وهو مرشح اليوم لأن يلعب دور المرمّم لخط الإمداد العراقي السوري اللبناني والذي ينطلق من طهران، وهو دور يأتي ليستثمر الفراغ والتردد الأميركيين حياله، خاصة بعد استفحال الفراغ العربي.

مشروع السيطرة والتحكم في هذا الخط نجح إلى حدَّ ما إيرانيا، ودائمـا على النقيض من فكرة تأسيس كيان وطني مستقل، أي كيـان مستقل له طبيعة اجتمـاعية ضمن حدود تديرها سلطة ضمن دولة معنية بإدارة الشأن العام، كيان يحتكر حق العنف المشروع بحسب تعريف ماكس فيبر للدولة.

 

 

النموذج الإيراني في أحسن الأحوال يتبنى في المنطقة العربية دولة تصريف الأعمال، أي الدولة المعلقة، وفشل استكمال مشروع الدولة في البلاد العربية عزز منذ نشأته من شعور التهميش لدى الأقليات في المنطقة العربية، ولدى المكوّن الشيعي في هذه الدول تفاقم الشعور بأنّه غير قادر على أن يكون جزءا عضويا من مفهوم الوطن والولاء للدولة، والمشروع الإيراني نفذ من هذه الثغرة واستفاد من التواجد الجغرافي للشيعة في المنطقة، إذ لم تعد العلاقة بين هذه المكونات الشيعية وإيران علاقة ندّية بل تبعية تجاوزت البعد الديني والثقافي إلى عملية ربط بالأمن والاقتصاد والتكوينات العسكرية. هذا الربط عبر المكونات التقليدية أي المذهب والطائفة في الحالة العربية، رسّخ النفوذ الإيراني.

في المثال اللبناني تحول النفوذ الإيراني إلى نفوذ بنيوي، إذ لا توجد شبكة مصالح شيعية لبنانية قادرة على أن تواجه هذا النفوذ، فحتى حركة أمل الشيعية التي يقودها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري انتقلت من موقع الند لحزب الله والنفوذ الإيراني لدى الشيعة وفي لبنان عموما، إلى حركة قصارى طموحها في أن تكون مدرجة على خانة التابع لإيران. فخلال السنوات العشر الماضية أظهرت حركة أمل التزاما كاملا بالعناوين الكلية للاستراتيجية الإيرانية في لبنان، في مقابل استمرار هذه الحركة كطرف مشارك في السلطة وفي تقاسم الحصة الشيعية في الدولة مع حزب الله مع أرجحية للأخير.

النموذج اللبناني هذا الذي يجري تطبيقه في العراق عبر إيجاد قوة رديفة اسمها الحشد الشعبي يفتقد في سوريا للقدرة على التطبيق بسبب غياب الحاضنة الشيعية، لذا فإن هذا النقص الديموغرافي عوضت عنه إيران في البداية بحشد عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الإيرانية والباكستانية والعراقية والأفغانية بالإضافة إلى حزب الله لمواجهة الثورة السورية، وها هي اليوم تحاول التعويض عبر التغلغل داخل الدولة السورية، فالنظام السوري الذي يرأسه الرئيس بشار الأسد، سلم بأن فرص بقائه في السلطة هي إيرانية بالدرجة الأولى، وأيّ تراجع للنفوذ الإيراني في سوريا سيؤدي حتما إلى نهايته، ويعرف السوريون أن الأسد انتهى منذ زمن من أن يكون مساويا لإيران في سوريا وفي إدارة المواجهة، بل أيقن حقيقة أنّ علاقته بهذا النفوذ باتت وجودية يبقيان معا أو ينتهيان معا.

بين العراق وسوريا ولبنان، انتقلت إيران من اعتماد عنوان مشروع المقاومة كتعويض عن غياب النموذج القابل للتعميم في بناء علاقة ندية مع الدول العربية، إلى تعزيز البنى الطائفية من أجل حماية الامتداد الاستراتيجي لإيران في المنطقة والمحافظة على وجوده. اللغة تغيّرت، لم تعد قضية تحرير فلسطين هي العنوان، بعدما صارت إسرائيل الثابت الاستراتيجي في المنطقة وفي الحسابات الإيرانية والعربية فضلا عن الروسية والأميركية. يتمّ اليوم إنتاج خطاب جديد أنّ السلاح الذي قاتل داعش هو سلاح مقدس، والذي يقاتل الإرهاب كما سلاح حزب الله الذي قاتل الاحتلال الإسرائيلي هو سلاح مقدس أيضا، والغاية في الحسابات الإيرانية المحافظة على ثنائية السلاح الرسمي والأهلي أو ثنائية السلاح والدولة.

إيران المشغولة بتثبيت الهلال الشيعي اليوم، كشفت عن أن الكيانات الشيعية التي عمدت إلى تشكيلها في المنطقة العربية، كم هي كيانات هامشية فرعية لا حقيقية، وظيفتها الولاء السياسي لإيران وأن تشكل ورقة ابتزاز تستخدمها القيادة الإيرانية في مواجهة خصومها، وهي مكونات تفتقد للقدرة على التبشير بأي مشروع وطني أو قومي أو إسلامي، لذا تستعين بالأيديولوجيا والمقدس لمواجهة غياب المشروع لتسويغ العزلة عن محيطها.