المرأة ليست سلعة. صارت عبارةً رائجة تبرر العودة الى عصور انطوت. النظرة والرمقة والمايوه، كلّها باتت عناصر تثير سخطاً واسعاً في صفوف شريحةٍ مجتمعية لبنانية ترفض انتشار لوحات الاعلانات التسويقية الجريئة على الطرق. وبين احترام رجال الدين المسلمين المعتدلين لافكار السوق الاعلانية، ونبذ المتشددين منهم لها، تذوب المفاهيم في بعضها، فتصير لمحة الحب "وسوسةً شيطانية"، والنظرة في عيني العاشق رذيلة، وملابس البحر، ابتذالاً. العلمانيون، منهم من يئس، ومنهم تراه لا يميل الى الدخول في زواريب ضيقة، ولا يريد اعطاء المسائل اكبر من حجمها. الكاتب نصري الصايغ احدهم، لم يعد ينتمي الى لبنان منذ 10 سنوات، كما يقول، بل يعيش في هذا البلد سائحاً. نسأله موقفه من المطالبة بمنع اعلاناتٍ لا ذنب لها ولا تهمة حقيقية تحدّ من قدرة مبتكرها على الابداع، فيجيبنا: "أنا أعيش سائحا في لبنان ولا اريد ان اتكلم في الموضوع. لأني انتميت الى وطني فرنسا وذهبت لأنتخب للمرة الأولى في الاسابيع الماضية. اللبنانيون يقبلون بي ولكن انا لا علاقة لي بهم. ما أريده من اللبنانيين "انو ما يخبطوا بعضن". فليمنعوا اللوحات الاعلانية او لا، هذا بلدهم والأنبياء معهم، إنها جمهوريتهم. أنا استيقظت منذ عشر سنوات لأجد نفسي أني لست لبنانياً". ورغم أن الآراء المتشددة لا تعبّر عن وجهة نظر رجال الدين المسلمين عموما، بل تنحصر في فئةٍ معينة، بات رأي المعتدلين منهم مطلوبا. 

بين الاعتدال والتشدد

وجهة نظر عبّر عنها لـ"النهار" قاضي بيروت الشرعي الشيخ حسن الحاج شحادة مشيراً الى انه "لا يمكن تقييد الاعلان في شكل عام بشروط الحلال والحرام، ما لم يسئ الى التقاليد المجتمعية عامةً. أنا اؤيد الاعلان الذي يعبّر عن حالة واقعية في الشكل الذي يرتئيه المعلن، بعيداً من الابتذال المعتمد لشكل المرأة، لأنه يسيء اليها ولا يسيء الى الدين، ولا بد من الاحتكام الى الوسطية". لا ينفي شحادة انقسام المجتمع الاسلامي وغير الاسلامي في لبنان الى فريقين. ووفق ما يقول، منهم من يتحفظ عن هذه الصور ومنهم من يتشدد ويشجب. رجال الدين المتشددون يعاقبون الشخص من خلال تكفيره والتبرؤ منه، والمعتدلون منهم يعتبرونها من المعاصي التي يمكن التوبة عنها والغفران لها، "لكن ليس منوطاً برجال الدين المبادرة الى تصنيف الناس ومحاسبتهم". ويتمنى "ان تشبه الاعلانات الشعب اللبناني بحياته الطبيعية، وان يعتاد الناس العودة الى التقاليد والقيم. ليس المطلوب الاحتشام، بل التقليل من الابتذال. إننا ندعم الاعلانات الحضارية التي تتلاءم مع حياتنا، ولكن باعتدال. ونحن لا نؤيد الاعتداء على اللوحات الاعلانية، رغم ان استنكارها ممكن، ولكن الاقدام على تمزيقها وازالتها بمبادرة شخصية هو بمثابة اعتداء". وماذا عن آراء المسلمين المنفتحين المؤيدين لمثل هذه الاعلانات؟ "بالطبع، اني احترم آراءهم".

في سياقٍ متصل، وجهة نظر متشددة اطلقها رئيس "هيئة علماء المسلمين" في طرابلس الشيخ رائد حليحل عبر "النهار"، اعتبر فيها ان "اشكالياتنا مع اللوحات انها مثيرة للفتن والغرائز واثارة مفاتن المرأة، وتالياً خدش حيائها كأنها باتت سلعة، لا تسوَّق السلع الا بها". وفي رأيه انه من باب احترام المرأة، ومن أجل هذا التعري الزائد الذي يخالف الشرع القائل بضرورة احتشام المرأة وتحجبها، ولوجود ايماءات واشارات لا تتناسب مع قيم المجتمع الشرقي المنبثقة من العادات والتقاليد، لا يمكن تقبل هذه الاعلانات. ويذهب بعيداً في قوله انه يخشى ان تكون اسباب الصور الجريئة "وسوسة شيطانية من اجل هدم قيم الفضيلة ونشر الرذيلة عبر كسر الحواجز الاخلاقية". ويقولها صراحةً: "انه تشجيع على الوقوع في الحرام". نحاول الرد بلغة المسلمين المؤمنين العلمانيين الذين لا يجدون في صورةٍ اعلانية جريئة عيباً. يجيب: "المسألة ترجع الى كل مواطن وأخلاقه، اذا كان يقبل هذا المستوى ام لا. معيارنا شرعي وديني وأخلاقي وقيمي، وليس معيار أشخاص قد يكون لديهم ثقافة خاصة أنتجت هذا التفكير". وماذا اذا قلنا إننا في عصر عولمة، والاعلانات الجريئة تنتشر بشكلٍ طبيعي عبر مواقع التواصل ؟ الاطلاع عليها يتم خلسةً في حال ضعف الانسان امام نزوته وشهواته، ولا يتم عرضها امام المجتمع كله، وتالياً لا يمكن تكريسها وكأنها مسألة منطقية.

القبلية

اجتماعياً، يرجع علم الاجتماع سبب انتنشار ظاهرة رفض اللوحات الاعلانية الجريئة الى التراجع في المجتمعات وفي التكوين المجتمعي الذي بات يبرز تكوينات مبنية على معايير الطائفية والقبلية، المرتبطة بالمناطقية، وفق ما يقول لــ"النهار" الباحث المجتمعي الكاتب عبدو القاعي. ويشرح أنه في قلب العولمة، تنشأ تكوينات فئوية مرتبطة بمفهوم الجماعة. فبات اللبنانيون جماعيين، لا مجتمعيين. فيما ازالة الصور دلالة على التراجع في العمق الانساني بعدما كان اللبنانيون منفتحين، فتجدهم اليوم يتقوقعون. وتالياً، المسألة لا علاقة لها بالصورة في ذاتها، وفق القاعي، بقدر ما هي تعبير عن تقوقع في ظلّ ذوبان المنفتحين في منحى قبلي يظهر في أوجهٍ مختلفة. ويصدمنا بالقول: "ان الحرب لم تنتهِ كما نعتقد. مناطقياً لبنان تحوّل الى فئات متواجهة منذ عشرات السنين. انها فئات شمولية متقوقعة".

السوق الإعلانية

من وجهة نظر اعلانية، يرى عدد من الخبراء في عالم الاعلان والتسويق ان الهدف من الهجوم على الصور الجريئة سياسي لا علاقة له بالدين. وهذا ما عبّر عنه تحديداً لـ"النهار" منسق ادارة التسويق في جامعة الحكمة الدكتور قبلان وهبة الذي يرى ان فئة من المجتمع، تطالب لأسباب مسيسة بمنع الاعلانات التي تتميز بالقليل من الجرأة. وفي رأيه أن شقّ التسويق عالمياً يعتمد على لفت النظر، وهو جزء أساسي من الاستراتيجيات المعتمدة في عالم الاعمال، شرط ألا يتعدى على الأخلاقيات (الخط الأحمر). لبنان لا ينقل سوى القليل من المفاهيم الغربية التي لا تتعدى الخط الأحمر، ومن ينتقد غايته إعطاء طابع متطرّف. ويهنئ وهبة الذين يعملون في التسويق الاعلاني، "ولكن علينا نحن اللبنانيين ألا نقع في اللعبة السياسية الراهنة، فالسوق اللبنانية غير متطرفة، والحل ليس عند التسويق الاعلاني بذاته. أكثرية دول العالم لا تدمج الاباحية بالاعلانات، ولبنان ليس في موقع الترويج الذي يتخطى الحدود الحمر". وعن العلاقة بين الايحاء والتسويق الاعلاني، يقول: "الايحاء موجود وهو أحد عناصر التسويق الاعلاني، وليس خطأً. يمكن كل شخص ان يتخيل ما يريد من خلال الايحاء الذي لم يصل الى درجة الاباحية".